بقلم - أمير طاهري
في دراسة تنبؤات التاريخ، غالباً ما تكون التنبؤات التي لم تحدث مثيرة للاهتمام، شأن تلك التي باتت أحداثاً حقيقية. هل تتذكر «صراع الحضارات» الذي كان يهدف إلى إقناع جزء من العالم بجزء آخر في عالم تشوبه حروب دينية واقتصادية، بل وعِرقية؟ بعد ذلك بعقود شهدنا على الأقل جزءاً من ذلك الصراع المتوقع ينشب داخل «حضارة» واحدة. في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية شهدنا هذه الظاهرة التي أطلقوا عليها «ووكيزم»، أو «اليقظة»، أو ثقافة الإلغاء، فيما أقدم كثير من الدول الناشئة على مخالفة بعض التابوهات والمحظورات لفتح آفاق أوسع للنقاش والمعارضة. وفي الديمقراطيات الغربية أيضاً عادت من جديد ممارسة حذف أجزاء من نصوص كلاسيكية.
في مقاله المهم «الغرب والبقية»، تنبّأ الفيلسوف الإنجليزي رودجر سكروتون بأنه مع نهاية «الحرب الباردة» سينقسم العالم إلى معسكريْن متخاصمين. كان سكروتون يعرض نسخة فلسفية من عبارة روديارد كبلينغ الشهيرة، أو لنقُلْ سيئة السمعة، التي قال فيها إن «الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا أبداً».
كان سكروتون يعتقد أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة، سيعيش «الغرب» في سلام، وسينعم بسيادة القانون وبالرخاء الاقتصادي والانتعاش الثقافي، فيما سيعاني «البقية» من الحروب والركود الاقتصادي والثقافي والقمع السياسي الناجم عن التقاليد والقيود الدينية والثقافية والأيديولوجية.
لم يحدد سكروتون بالضبط ما يعنيه بكلمة «البقية»، لكن قراءة متأنية في مقاله تُظهر أنه، مع بعض الاستثناءات المحدودة مثل اليابان، فإن كلمة «البقية» هنا تشمل جميع الدول غير المنضوية تحت لواء الأنجلوسفير والديمقراطيات الغربية. وفي كلمة «البقية»، حدد سكروتون دوراً كبيراً للإسلام، أو الأصولية المتشددة، بوصفها تحدياً للغرب. فبفضل معدلات المواليد المرتفعة والهجرات الجماعية، كان من المتوقع أن يتسبب المسلمون في تغيير طبيعة المزيج السكاني في الغرب. وبوحي مما كتبه سكروتون، حذر بعض الكُتاب حتى من تحول أوروبا إلى ما أطلقوا عليه «عروبا»، فيما خشي آخرون من «الإحلال العظيم» للسكان الحاليين بعد أن يحل مكانهم جحافل من القادمين الجدد مما أُطلق عليه دول «البقية».
لكن ما حدث، خلال العقدين التاليين، ربما عرض صورة مختلفة. بادئ ذي بدء، باستثناء الحروب التي صدرها «الغرب» إلى أفغانستان والعراق، عاش «البقية» في سلام إلى حد كبير، فيما شهد «الغرب» سلسلة من الحروب في البلقان، وشمال وداخل القوقاز، وحالياً في أوكرانيا.
أفرزت تلك الحروب مهاجرين أكثر مما أفرزت «البقية»، فقد أفرزت الحرب السورية أكثر من 10 ملايين لاجئ ومشرَّد، لكن غالبيتهم اتجهوا إلى دول الجوار التي تعتبر جزءاً من «البقية». وفي المقابل، انتهى المطاف بما يقدَّر بنحو 13 مليون لاجئ أفرزتهم حروب البلقان والحرب الأوكرانية الحالية بأن اتجهوا إلى «الغرب». وفيما يخص الازدهار الاقتصادي، فقد كان أداء «البقية» أفضل من أداء «الغرب»، إذ قارب معدل النمو الاقتصادي في دول «البقية» 6 % سنوياً، فيما عجز «الغرب» عن تخطي نسبة 2.2 %. كما كانت إنتاجية الفرد أعلى في دول «البقية»، منها في «الغرب»، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى الواردات الضخمة من التكنولوجيا ورأس المال من أوروبا، وأميركا الشمالية، واليابان، وتايوان.
وباستثناء الصين وإيران وروسيا التي شهدت تشدداً في الحكم السلطوي، سارت غالبية دول «البقية» على استحياء تجاه فتح المجال السياسي، إن لم يكن التحول الديمقراطي الفعلي. وفي المقابل شهد كثير من دول «الغرب»، بحسب سكروتون، ظهور اتجاهات شعبوية استبدادية، إلى أن باتت في نهاية المطاف معادية للديمقراطية.
أظهرت السياسات الحزبية للولايات المتحدة، اليوم، ومغامرة «بريكست» المثيرة، أن «الغرب» ليس بمأمن من المنصات القائمة على الكراهية، وكراهية الأجانب التي يراها سكروتون في دول «البقية».
أدى الانتشار السريع لوسائل التواصل الاجتماعي إلى الجمع بين «الغرب» و«البقية» في كثير من مناحي الحياة، إذ ظهرت أنماط متماثلة، خاصة بين الشباب، من حيث طريقة الملبس، والكلام، والعيش في فضاء إلكتروني قضى على المسافات الجغرافية. كذلك انتشرت أنماط الحياة البديلة، بما في ذلك ما يطلق عليه «خيارات قوس قزح»، التي تشكلت للمرة الأولى في «الغرب» ثم انتشرت تقريباً في جميع دول «البقية»، و«الوجبات السريعة» التي ظهرت في الغرب قبل أن تنتشر تقريباً في كل دول «البقية»، ودول مثل الصين والبرازيل والهند، وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران، جميعها أصبحت الآن من بين كبار مستوردي الكونياك الفرنسي.
بصرياً، تميل دول «البقية»، اليوم، لأن تماثل «الغرب» في الشكل، حيث يوجد، اليوم، ناطحات سحاب في شنغهاي وجاكرتا أكثر مما يوجد في نيويورك، ولم يعد أعلى المباني في العالم موجوداً في شيكاغو أو نيويورك أو لندن، بل في دبي وشنغهاي ومكة.
هناك ما يقارب 5000 ماركة عالمية، غالبيتها استُحدثت في «الغرب»، لكنها صُنعت في دول «البقية» لتهيمن على الأسواق التجارية حول العالم. المسافرون في دول «البقية» يقيمون في فنادق تديرها سلاسل عالمية، ويركبون سيارات أوبر ويتناولون وجبات بماركات عالمية، ويسمعون موسيقى لم تعد تمثل ثقافة بلدانهم، ويشاهدون نفس المسلسلات على محطات البث الصوتي ذاتها.
العام الماضي، ظهرت ثماني دول على الأقل في دول «البقية» ضمن 20 دولة لديها أكبر عدد من المليارديرات في العالم.
تغزو دول «البقية» دول «الغرب» بعدة أساليب. على سبيل المثال، حققت السينما، التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى، بعداً عالمياً، حيث تجاوز أكثر من 40 دولة من دول «البقية» حدود الأسواق المتخصصة. وفي زيارة قمت بها مؤخراً إلى مكتبتي المفضلة في باريس، لاحظت أكثر من 30 رواية جديدة مكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية من قِبل مؤلفين من دول «البقية». وفاز الكُتّاب من دول «البقية» ببعض الجوائز الأدبية المرموقة في «الغرب»، وكذلك فاز مخرجو السينما من دول «البقية» بجوائز الأوسكار وغيرها من الجوائز المرموقة في مهرجانات برلين، و«كان»، وفينيسيا السينمائية.
كما اقترب «الغرب» و«البقية» من بعضهما البعض في المجالات العلمية بدرجة أكبر مما تخيلها سكروتون. فإيران وحدها تصدر في المتوسط نحو 180 ألف عالم لأوروبا والولايات المتحدة سنوياً. ويدرس ملايين الطلاب الصينيين في كليات وجامعات في «الغرب»، يفضل غالبيتهم عدم العودة إلى بلدانهم بعد الانتهاء من دراستهم. في المقابل، استقر كثير من رجال الأعمال والخبراء التقنيين ومديري التسويق من «الغرب» في دول «البقية»، بما في ذلك الصين، والهند، وإندونيسيا للمساعدة والاستفادة من النمو الاقتصادي السريع.
التقى روديارد كبلينغ ومارك توين، وأدركا أن ما يحدث لأحدهما حتماً يؤثر على الآخر. ربما لم يعد هناك «غرب» و«بقية»، بل هناك «مكان عظيم في كل مكان»، حيث نجد الملابس ذاتها، والطعام ذاته، والماركات ذاتها، والموسيقى ذاتها، والحماقات والعبقرية ذاتها هنا وهناك، لدرجة أن حياً في مدينة «هانوي» الفيتنامية قد يذكّرك بمدينة كنساس الأميركية.