أمير طاهري
في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة وروسيا لمؤتمر «جنيف 2» حول سوريا، تحاول بعض مراكز البحث في واشنطن وموسكو إحياء فكرة تقسيم الدولة التي مزقت أوصالها الحرب إلى عدة دويلات.
تعيد فكرة «تقسيم» سوريا إلى الأذهان جدالا مماثلا متعلقا بالعراق في عام 2003 بعد التحرر من طغيان حزب البعث. كان هناك عدد من الكتب التي تحث الولايات المتحدة على تقسيم العراق إلى دويلات شيعية وسنية وكردية. أتذكر اشتباكا لفظيا حول الموضوع مع السيناتور جوزيف بايدن، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس الولايات المتحدة، في برنامج إذاعي أميركي. أصر بايدن على أن العراق كان دولة صناعية ولا يمكن الإبقاء عليها. كانت حجتي هي أن كل الدول، بما فيها بريطانيا، صناعية، نظرا لأنه لم يهبط أي منها من السماء مكتملا تماما.
يحاول بعض النقاد استخدام الحرب الأهلية السورية كمبرر لإحياء ما يعرف باسم مذهب ويلسون، الذي جاء اسمه من الرئيس الأميركي وودرو ويلسون والذي في ظل حكمه أمكن تحويل المجتمعات المتعددة في الإمبراطورية العثمانية البائدة إلى دويلات.
ليست الحرب الأهلية السورية هي السبب الوحيد الذي يستشهد به لتبرير تجدد الجدال مرة أخرى. فلبنان محتجز في الوقت الحالي كرهينة سياسية من قبل حزب الله، وعاجز عن تشكيل حكومة جديدة وإجراء انتخابات عامة. إن «النظام الديمقراطي» العلماني الذي قد أبقى الدولة مكتفية ذاتيا معرض لخطر التدمير نتيجة عزم حزب الله على فرض سياساته بتهديد السلاح. علاوة على ذلك، فإن ثمة حديثا عن دولة كردستان مستقلة، وهو موضوع من المقرر مناقشته في مؤتمر كردي عام في أربيل في نوفمبر (تشرين الثاني).
تتمثل إحدى النظريات في أن العديد من مشكلات المنطقة ترجع بالأساس إلى عجز المجتمعات المختلفة أو «الأمم» عن العيش معا في سياق دولة موحدة. ومن ثم، ينبغي أن يتمثل الحل في البلقنة، مثلما كان الحال في دولة يوغوسلافيا السابقة. ومع قليل من الاستثناءات، على سبيل المثال مصر، ربما يؤثر سيناريو التقسيم على جميع دول المنطقة من شمال أفريقيا إلى شبه القارة الهندية.
ولترويج سيناريو التقسيم في مثال سوريا، نشر بعض الخبراء نص خطاب تم إرساله في عام 1936 من قبل سليمان الأسد، جد الرئيس السوري بشار الأسد، لرئيس الوزراء الفرنسي وقتها ليون بلوم، يطالبه بإعادة الشريط الساحلي الواقع بين الجبال غرب دمشق والبحر المتوسط إلى دولة للطائفة النصيرية. وفي هذا الوقت، لم يكن قد جرى اتخاذ مصطلح «علوي»، الذي يستخدم بشكل متكرر الآن، من قبل النصيريين كرمز تعريفي. وفي ظل الانتداب الفرنسي، تمتع الشريط الساحلي الذي تمت تسميته محافظة اللاذقية في عام 1922 بدرجة من الاستقلالية. وعلى الرغم من ذلك، فقد قررت حكومة بلوم تشكيل دولة سورية موحدة يكون الشريط المتنازع عليه جزءا منها.
ونظرا إلى أن الأسد الجد نظر إلى العالم في ضوء الانقسامات الطائفية، فقد حاول مجاملة بلوم بالإشارة إلى الأصول اليهودية لرئيس الوزراء الفرنسي. وزاعما أن المسلمين كانوا «جهاديين»، وأن اليهود «جاءوا للعرب بـ(هدية) الثقافة والسلام».
وعلى الرغم من ذلك، فإن بلوم كان اشتراكيا ومهندسا لاتفاق الجبهة الشعبية مع الشيوعيين. ورأى العالم في ضوء الانقسامات بين الطبقات، لا الطائفية الدينية. ونتيجة لذلك، عندما انتهى الانتداب الفرنسي في عام 1946، كانت سوريا قد تشكلت كدولة موحدة لكل المجتمعات الدينية والعرقية. وعلى مدى ما يربو على ستة عقود، إبان الفترة التي تحولت فيها سوريا من دولة تضم 1.2 مليون نسمة إلى واحدة يزيد تعداد سكانها على 20 مليونا، هناك شعور مميز بالأصالة السورية ظهر كدعامة لهوية الدولة الجديدة.
وإذا كانت الحداثة اختبارا لصلاحية دولة، فينبغي اعتبار سوريا واحدة من أقدم الدول في العالم اليوم. وفي عام 1946، لم تكن الأمم المتحدة تضم أكثر من 60 عضوا، مقارنة بـ198 عضوا اليوم. الدولة/ الأمة السورية أقدم من جمهورية الصين الشعبية والهند، على سبيل المثال لا الحصر.
إن تسليط الضوء على أصول أي دولة قد يكشف عن نقاط خلاف متعلقة بذلك. لكن ما يهم في كل مثال تقريبا هو الحقيقة الوجودية للدولة الأمة.. وهو محل النقاش. تتمثل نقطة الانطلاق في أي مناقشة عن مشكلات سوريا في وجودها كدولة أمة موحدة. ربما يكون مؤتمر «جنيف 2» قادرا على تقديم مساهمة إيجابية، فقط إذا ما أقر بالإبقاء على الوحدة الوطنية لسوريا والتكامل الإقليمي كحقيقتين بديهيتين.
إن الأزمة التي قد ألمت بسوريا لأكثر من 30 شهرا ليس مرجعها إلى الطائفية، مع أن هناك طائفيين من جميع الأطراف يقاتلون بعضهم بعضا ويقتلون من هم في المنتصف.
بدأت الكارثة السورية كانتفاضة شعبية طالبت بنصيب أكبر قليلا من الحرية والكرامة. في البداية، لم يظهر حتى مطلب تنحي الرئيس الأسد. ومع الكشف عن استخدام العنف لقمع الانتفاضة، جنحت عناصر منها نحو التطرف. أصبح الأسد رمزا للقمع، مع أنه سرعان ما بات واضحا أنه ليس وحده في تقرير استخدام القبضة الحديدية. وبمجرد أن اتضح جليا تورط النظام بأكمله في القمع، تحول مطلب خلع الأسد إلى مطلب تغيير النظام. وهذا، بدوره، أجج الحرب الأهلية التي تهدد السلام والاستقرار عبر أنحاء الشرق.
ومن ثم، ينبغي أن يكون محور مؤتمر «جنيف 2» هو تغيير النظام في سوريا. وهذا التغيير حتمي. ويمكن أن يتحقق عبر مزيد من الأعوام من القتال، أو حتى، التدخل العسكري الأجنبي. ولكنه قد يتحقق أيضا من خلال اتفاق واسع بين القوى المعنية، وبالأخص روسيا والولايات المتحدة، على رعاية وضمان نظام تقاسم سلطة لتحويل كل السوريين إلى مساهمين في واقع جديد.
ليس بوسع الفريق المنادي بتقسيم سوريا سوى صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية للصراع الحالي. ومن ثم، جعل إيجاد حل مهمة أكثر صعوبة.
ينبغي أن يرحل الأسد، ولكن يجب أن تبقى سوريا.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط