أمير طاهري
يندهش زائر الولايات المتحدة هذه الأيام من حجم الاهتمام الضئيل الذي يبديه الأميركيون لقضايا السياسة الخارجية، حيث تشكل المحاولة الفاشلة التي قام بها الرئيس باراك أوباما لتقديم الرعاية الصحية الخاضعة لسيطرة الدولة والمعدلات المرتفعة للبطالة مثار حديث البلاد. والحالة المزاجية لدى الجميع كئيبة للغاية، وأقل ما يقال هو أن حالة التفاؤل تتراجع يوما تلو الآخر.
بيد أنه رغم تدني شعبية أوباما بين مؤيديه، يبدو الجمهوريون غير قادرين على تقديم بديل موثوق.
وهو جعل أميركا تعاني واحدة من نوباتها الانعزالية.
ولذا كان من المثير للدهشة أن نشهد حدثا يركز على السياسة الخارجية الأميركية على بعد آلاف الكيلومترات عن واشنطن.
كان هذا الحدث هو الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس معهد بيكر، الذي أنشأه وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في جامعة رايس بمدينة هيوستن بولاية تكساس. دارت المناقشات خلال الاحتفال حول محادثة مع الرئيس جورج بوش، الذي يتمتع بشعبية منخفضة للغاية بين الأميركيين، ليرتد الحوار إلى نقاش علني حول أداء خليفته. رفض دبليو، كما يحب الرئيس بوش أن يلقبه أقرانه من أبناء تكساس، الانجرار إلى الحديث عن نقد أوباما، الذي تحول إلى هواية وطنية بالنسبة للأميركيين هذه الأيام، مُصرا على ضرورة «الحفاظ على كرامة الرئاسة».
لكن صراحته في رده على سلسلة من الأسئلة التي طرحها السفير السابق إدوارد ديرجيان، ترسم ملامح استراتيجية بديلة ربما يرغب الجمهوريون في الاستفادة منها في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى عام 2016.
المؤكد، هو أن دبليو لن يخوض السباق، لكن هناك مؤشرات على أنه قد لا يرغب في أن يشارك عن قرب في الجولة القادمة من الصراع كما فعل في الانتخابات السابقة.
كان تحليل بوش أشبه بتحليل الفيلسوف الألماني كارل شميت، حيث يعتقد دبليو أن القضية الرئيسة للسياسة هي التمييز بين الصديق والعدو. إذا كانت السياسة لعبة اختيار، فالمؤكد هي أنها تتحدث عن اختيار أي من الجانبين. وهناك أشياء أنت مصمم على القيام وأشياء أخرى أنت مصمم على الحيلولة دون وقوعها.
صيغ هذا النهج في عقيدة بوش السيئة السمعة، المحور الذي بنى عليه بوش سياسته الخارجية.
وفقا لهذه العقيدة فإن أولى مهام السياسة الخارجية هي حماية الولايات المتحدة من الأعمال العدائية، التي تهدد الأمن الأميركي أو المصالح الوطنية، بحيث يجري تحديدها ومتابعتها ومعاقبة مرتكبيها مهما بلغ طول المدة وحجم التكلفة التي يمكن أن تتكبدها الولايات المتحدة. وأن الازدواجية لن توفر أي حماية لمن يزعمون أنهم أصدقاء، لكنهم يدعمون الأعداء في الوقت ذاته بوسائل مخادعة. وكما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة التي دائما ما توجد لحماية أصدقائها، فهي تتوقع أن يقف أصدقاؤها بجانبها في ظروف مشابهة.
لكن الفارق بين الصديق والعدو ليس فارقا بين أسود وأبيض. فالكثير من الدول والجماعات على الساحة العالمية تشكل تكتلا رماديا كبيرا. وبعض الدول أصدقاء وحلفاء، فالآخرون حلفاء، و/ أو شركاء.
إذا كان هناك تسلسل هرمي للقيمة من وجهة النظر الأميركية فيمكن اعتبار الديمقراطيات الأربعين التقليدية لب أصدقاء النادي الأميركي.
وبحسب عقيدة بوش كلما زاد عدد الديمقراطيات، كانت الولايات المتحدة أكثر أمنا. ومن ثم، فإن المساعدة في نشر الحكم الديمقراطي بصوره المختلفة ينبغي أن يكون أولوية السياسة الخارجية الأميركية.
كان الهدف على الدوام هو القيام بكل ما يلزم لتحويل العدو إلى صديق. وقد حدث ذلك في كثير من الدول منذ الحرب العالمية الثانية التي لا يتوقع أن تشكل أي منها تهديدا للولايات المتحدة في الوقت الراهن، فقد استثمرت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأرواح والأموال للتأكد من أن تقوم هذه الدول المتباعدة كألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان ببناء حياة جديدة وإبعاد المعتدين المحتملين. وبعبارة أخرى فإن الوقوف إلى جانب ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية كان استثمارا في الأمن القومي الأميركي.
إزاء هذه الخلفية يحمل بوش إيمانا عميقا بأن العالم سيكون مكانا أفضل من دون طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق.
إلى جانب الحلفاء الأصليين، كان للولايات المتحدة الكثير من الشركاء والأصدقاء، البعض منهم لا يلتزم نفس طريقة التفكير الأميركي في كل القضايا. لكن احترامها للتنوع، يوجب على الولايات المتحدة أن تبذل جهودا لإقناعهم بتنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية التي تعدها ضرورة لتحقيق استقرار ورفاهية طويلة الأجل.
عكس بوش كمرشح رئيس في انتخابات عام 2000 الحالة الانعزالية لتلك الفترة. لكن أحداث 11-9 أجبرته على تخطي هذه الحالة، وبقدر اهتمام السياسة الخارجية، وإدراك أن أميركا لا يمكن أن تظل قوة عظمى والتوقع بأن تظل بمنأى عن أعداء النظام العالمي، تحول إلى رئيس نشط. وقد حاول منتقدو دبليو أن يصوروه في شكل تيدي روزفلت في نزعته الشوفينية. لكن هناك اختلافا بينهما وهو أن تيدي كان حذرا وهو يحمل في يده عصا غليظة، في بادرة دفاعية اعتذارية. في المقابل استخدم دبليو العصا الكبيرة عند الضرورة، لكنه حتى الآن، لم يعتذر عن أي من أخطاء سياسته الخارجية. وكان شعاره هو «قم بالأمور عندما تؤمن بها فقط، وإن لم تكن مؤمنا بها فلا تفعلها».
إضافة إلى ذلك، وجه دبليو خلال سنوات رئاسته الثماني، عددا قليلا من الخطب للسياسة للخارجية، فقد كان يجري مناقشات موسعة ويفكر بعناية ثم يتحرك. وما يثير استياء الكثير من منتقديه وهم كثيرون حتى اليوم أنه كان قليل الكلام كثير الأفعال، وهو ما يجعله يقف على طرف نقيض مع خليفته. فقد ألقى أوباما عددا لا يحصى من الخطب السياسية لكنه لم يقم بالكثير أو أنه لم يفعل شيئا مطلقا لصياغة استراتيجية عالمية متسقة.
يسير أوباما على نهج غاري كوبر في فيلم «هاي نون» الذي يحدد موعدا نهائيا وخطوطا حمراء والتي كان ينبغي على خصومه الحقيقيين أو المفترضين أن ينفذوا مطالبه لكنه كان يخفي العصا الغليظة أسفل الطاولة. وعندما مر الموعد النهائي وجرى تجاوز خطوطه الحمراء ألقى خطبة أخرى، لم يحدد فيها موقفه، ولم يتمكن من تمييز الصديق من العدو.