أمير طاهري
«الضيف الثقيل أسوأ من التتار!» هكذا يفتتح ألكسندر بوشكين «قصة القيصر سلطان»، وهي حكاية رمزية نثرية ألفها بوشكين في عام 1830.
تعرف بوشكين على التتار في عشرينات القرن التاسع عشر حينما قضى عاما من عمره في شبه جزيرة القرم. ولا بد أن بوشكين سمع خلال ذلك العام عن المثل القرمي المضاد لمقولته والذي يقول: «الدب يأتي إلى بيتك ضيفا ثقيلا!».
قفز المثل التتري القرمي إلى ذهني في اليوم التالي للزيارة الخاطفة التي قام بها رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف لشبه جزيرة القرم المنضمة حديثا لروسيا. ذهب «ابن الدب» - هذا هو ما يعنيه اسم ميدفيديف بالروسية – إلى موطن أجداد التتار ليحل عليهم ضيفا ثقيلا.
يوم الثلاثاء المقبل الثامن من أبريل (نيسان) يوافق الذكرى 230 لضم روسيا لشبه جزيرة القرم، التي تحولت فيما بعد إلى إحدى الولايات الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية. وهناك تقارير – لم يجر تأكيدها حتى كتابة هذه السطور – عن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتزم زيارة شبه جزيرة القرم للاحتفال بهذه المناسبة. وإذا فعل بوتين وزار القرم بالفعل، فإنه سيؤكد بذلك هاجس روسيا التاريخي بشأن شبه الجزيرة الواقعة على البحر الأسود.
ويغذي هذا الهاجس الروسي فيما يخص شبه جزيرة القرم ثلاثة عناصر:
العنصر الأول هو قضية القومية الروسية.
إذا نظرنا إلى القضية من إحدى زواياها، فسنجد أن الروس يحاولون الدفاع عن قوميتهم ضد قبائل التتار والحكام الأتراك، الذين حكموهم على مدى قرون في إمبراطوريتهم التي تمتد من نهر الفولغا وحتى المحيط الهادي. وتصور رحلات ابن فضلان، أحد مبعوثي الخليفة العباسي «المقتدر»، وأحمد ابن رسته، وهو جغرافي فارسي من أهل أصفهان، الذين تعرفوا على الروس في القرن العاشر، الروس على أنهم أناس يبحثون عن هويتهم وأنهم محاطون دائما بقبائل معادية.
ويمكن للمرء أن يتخيل أن التاريخ الروسي عبارة عن قصة طويلة من محاولات القضاء على الممالك التترية الواحدة تلو الأخرى. وفي يومنا هذا، يمكن أن ينظر المرء إلى بعض الجماعات التترية، التي ما زالت جزءا من الاتحاد الروسي، على أنها سلالات مهددة بالانقراض. وقد استطاعت بعض تلك الجماعات، مثل الكالموك والشركس (قره تشاي)، أن تظل على قيد الحياة كمجرد ظلال لماضي التتار. وفي شبه جزيرة القرم، يشكل التتار 18 في المائة من السكان، رغم أنهم كانوا يمثلون 82 في المائة من سكان شبه الجزيرة في عام 1930. حيث قام جوزيف ستالين بنقل غالبية التتار إلى معسكرات الاعتقال، التي كانت تبعد 6000 كيلومتر إلى الشرق.
العنصر الثاني الذي يغذي الهاجس الروسي تجاه القرم ينبع من الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة. حيث تسمح شبه جزيرة القرم لروسيا – التي تُعتبر دولة حبيسة إلى حد بعيد – بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي البحار المفتوحة الأخرى. وتعتبر سيفاستوبول القاعدة الرئيسة لقوات البحرية الروسية.
في شبابه وعندما كان يقوم بتغطية حرب القرم في عام 1854، صور الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي شبه جزيرة القرم على أنها حصن يعزل روسيا عن أعدائها. وخلال تلك الحرب، التي راح ضحيتها مليون قتيل، استطاعت روسيا هزيمة القوات المشتركة من الغزاة الأتراك والفرنسيين والبريطانيين. وحتى يومنا هذا، ما زالت الكثير من الأماكن في باريس تحمل أسماء المعارك التي جرت على أرض القرم، مثل سيباستوبول ومالاكوف. كما يقف تمثال، يكرم ذكرى 25000 إنجليزي قتلوا خلال حرب القرم، في ووترلو بليس، وسط لندن. كما جرى تخليد ذكرى «هجوم اللواء الخفيف»، الذي قاده لورد كارديغان خلال معركة بالاكلافا، في إحدى قصائد الشاعر البريطاني الشهير ألفريد تنيسون، ودخلت تلك القصيدة الأساطير البريطانية باعتبارها واحدة من أعظم قصص الشجاعة.
أما العنصر الثالث والأكثر قوة فيما يخص الهاجس الروسي تجاه شبه جزيرة القرم فهو الصورة الرومانسية التي تحتلها القرم في الخلفية النفسية للروس.
كانت الإمبراطورة كاترين الثانية هي أول حاكم روسي يزور شبه جزيرة القرم، التي ملكت قلب الإمبراطورة بإغرائها الرومانسي. وفي خطاب أرسلته إلى رئيس الوزراء غريغوري بوتيمكين، قالت كاترين إنها وجدت باغ - شيش سراي، العاصمة التترية التي سقطت في يد الروس، وكأنها صورة من الجنة على الأرض. وقد أحبت كاترين الحديقة الفارسية الجميلة، التي صممها وأنشأها أستاذ عمر بيلقاني، أحد كبار منشئي الحدائق في تبريز، لأحد ملوك التتار من أسرة غيراي في القرن الخامس عشر. وكان الشيء الوحيد الذي اشتكت منه الإمبراطورة كاترين الثانية هو صوت المؤذن الذي يدعو المسلمين للصلاة خمس مرات في اليوم، مما كان يضطرها للاستيقاظ في وقت مبكر عند الفجر، ويحرمها من النوم وقت القيلولة.
كما لعب بوشكين دورا كبيرا في تعزيز الصورة الرومانسية لشبه جزيرة القرم.
حيث تحكي قصته النثرية بعنوان «نافورة باغ - شيش سراي»، التي صدرت في عام 1824، قصة الأميرة السلافية، ماريا بوتوكا، التي أسرها السلطان التتري، الذي أحبها حبا شديدا، لكنها لم تستطع أن تبادله ذلك الحب لأسباب دينية وعرقية. وتقول إحدى الأساطير إن السلطان التتري أنشأ القصر والحديقة في باغ - شيش سراي، التي أصبحت فيما بعد عاصمة الدولة التترية في القرم، من أجل تلك الأميرة. (باغ - شيش سراي جملة فارسية تعني: قصر في حديقة صغيرة). ومن المفترض أن تمثل النافورة الدموع التي ذرفتها الأميرة.
أما في القصة التترية الأصلية، التي استوحى منها بوشكين قصته، فإن الأميرة تنتمي لأصول جورجية وليست سلافية، وتحمل اسما فارسيا هو «ديلارام بيغاش (ديلارام تعني: مريحة القلب، وبيغاش تعني: النقية). من خلال تغيير أصول الأميرة، ربما كان بوشكين يرغب في إعطاء رمز للقرون التي ظلت خلالها روسيا أسيرة حكم التتار.
وتختلف شبه جزيرة القرم كليا عن روسيا، حيث تتمتع بجو دافئ مشمس، بينما تعاني روسيا من طقس بارد وقاتم. كما أن القرم مفتوحة على العالم الخارجي، في حين تبدو روسيا محاصرة من قبل سهول التندرا الشاسعة المتجمدة. القرم هي أرض الوفرة والغنى، بينما تعاني روسيا دائما من القلة والعوز. تضرب القرم جذورها العميقة في التاريخ البشري، بينما تُعتبر روسيا وافدا جديدا على سجلات التاريخ البشري.
منذ خمسة وعشرين قرنا من الزمان، طارد الملك الأخميني، داريوس الكبير، مقاتلي السكوثيين من دون تحقيق نجاح يذكر. وعلى مدى قرون، كانت شبه جزيرة القرم عبارة عن ثكنة عسكرية للإمبراطورية الرومانية. كما زار الشاعر أوفيد، الذي نفاه الإمبراطور أغسطس إلى توميس - هي جزء الآن من دولة رومانيا المجاورة – القرم التي وصفها بأنها «الجنة الأرضية». كما شهدت شبه الجزيرة قرونا من سيطرة العثمانيين عليها، تلتها 180 عاما من الحكم الروسي، ونصف قرن من الانضمام إلى أوكرانيا.
كما يتضمن تاريخ شبه جزيرة القرم قرونا قضتها تحت حكم سلالة جنكيز خان وتيمورلنك، وسلسلة من التحولات الدينية بداية من البوذية إلى الأشكال المختلفة من المسيحية وأخيرا الإسلام، ناهيك عما يقرب من 80 عاما من سيطرة الشيوعية.
السؤال الآن: هل ستستطيع روسيا ابتلاع شبه جزيرة القرم بسهولة؟ لا أحد يعرف الإجابة.
ورغم ذلك، فعندما يزور بوتين باغ - شيش سراي، فسوف يحسن صنعا عندما يقرأ تلك السطور من قصيدة بوشكين:
هناك، وجدت مقبرة
تضم رجالا فاتحين مثواهم الأخير،
وأعمدة تزينها تيجان الرخام،
ويشير الدليل إلى المثوى
ثم يتحدث لهجة القدرة الشديدة:
«هنا يرقدون، والجميع سيرقدون في مثواهم الأخير مثلهم».