في واحدة من تلك المصادفات التي تضفي بعض التوابل على أحداث التاريخ، جاء اجتماع هذا الأسبوع بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والعاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز، ليعيد إلى ذاكرتنا أول قمة عقدت قبل 70 عاما بين زعيمي الدولتين. وكان تاريخ 23 يناير (كانون الثاني) 1945 حينما وصل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت إلى البحر الأحمر على متن حاملة الطائرات الأميركية «كوينسي» للاجتماع مع العاهل السعودي الأول الملك عبد العزيز بن سعود.
سعى الرئيس روزفلت لعقد ذلك الاجتماع في أعقاب مؤتمر يالطا الذي اتفق فيه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على تقسيم أوروبا إلى مناطق للنفوذ، كأول كتلة بناء للنظام العالمي الجديد.
في ذلك الوقت، خرجت أميركا اللاتينية، التي كانت تعتبر الفناء الخلفي للولايات المتحدة، من مناقصة الأخذ والعطاء الدولية. وظل الاستقرار الأفريقي من التزامات المملكة البريطانية، وإلى حد طفيف، القوى الاستعمارية الفرنسية كذلك. في آسيا، لم تكن اليابان قد أعلنت استسلامها بعد، بينما علقت علامة استفهام كبرى فوق الصين التي ضربتها نيران الحرب الأهلية. أما بالنسبة لشبه القارة الهندية، فكان الأمل في أن بريطانيا سوف تدير بصورة أو بأخرى الانتقال من حالة الإمبراطورية إلى وضعية الكومنولث، مما يساعد على استقرار قطعة كبيرة من مساحة آسيا. وكانت القطعة المفقودة من اللغز هي المنطقة المعروفة حاليا باسم الشرق الأوسط التي كانت تتقاذفها أمواج الاضطرابات منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى.
فلماذا رغب روزفلت في دعوة الملك السعودي للاجتماع رغم معارضة ونستون تشرشل؟
تستدعي الحكمة التقليدية الإشارة إلى إغراءات النفط.
مع ذلك، لم تكن المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت من كبار منتجي النفط، ولم يكن هناك تقدير دقيق حول احتياطي النفط لديها. قبل 10 أعوام على ذلك الاجتماع كانت بريطانيا قد رفضت طلبا سعوديا للحصول على قرض بقيمة نصف مليون دولار لتطوير الموارد النفطية في شبه الجزيرة. وكانت الشخصية التي عارضت السماح بتقديم القرض هي السير لانسيلوت أوليفانت كبير الدبلوماسيين بالخارجية البريطانية. (ومنذ ذلك الوقت، دخل المثل الإنجليزي «ممارسة أوليفانت» إلى اللغة الإنجليزية للسخرية من القرارات الغبية الصادرة عن المسؤولين الكبار).
لم يكن الأميركيون يعتبرون النفط السعودي سببا رئيسيا في مصالحهم مع المملكة الفقيرة آنذاك.
فقد كانت المملكة توفر ميزة أكبر في قيمتها بكثير من النفط: ألا وهي الاستقرار.
التقى بارتلي سي. كروم، مبعوث الرئيس هاري إس. ترومان لشؤون الشرق الأوسط، مع الأمير (حينها) فيصل بن عبد العزيز واصفا المملكة العربية السعودية بأنها «حجر الأساس في استقرار الأوضاع بمنطقة الشرق الأدنى».
في 1945 كانت الثروة الأساسية في المملكة العربية السعودية هي الاستقرار، في وقت تميز بتفرد غريب في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا. خلال العقود الـ7 التي أعقبت قمة عبد العزيز - روزفلت، ظلت المملكة ركيزة الاستقرار في الوقت الذي ضُرب فيه باقي أجزاء المنطقة بمطارق الغزو الأجنبي والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والثورات والانهيارات الاقتصادية.
بعبارة أخرى، لم تتأت أهمية المملكة العربية السعودية من جراء النفط. فقد كانت هناك شعوب كثيرة أخرى تمتلك النفط. حتى عام 1951 كانت إيران أكبر مصدر للنفط في المنطقة، وتصدرت لبعض الوقت خلال فترة السبعينات قائمة كبار منتجي منظمة أوبك. ولأكثر من 50 عاما، أنتجت ليبيا نفطا يفوق بـ3 أضعاف لكل مواطن من مواطنيها أكثر مما أنتجته المملكة العربية السعودية بذات المقياس. ولا يمكن لأحد التقليل من شأن الاحتياطي النفطي العراقي المهول.
رغم ذلك، لم تحقق إيران أو ليبيا أو العراق قدر الاستقرار المطلوب لبناء المؤسسات اللازمة للدولة القومية الحديثة. وبعد مرور 70 عاما، ظلوا ضحايا حماقاتهم الذاتية.
ومجددا، وبطريق المصادفة البحتة، تأتي المملكة العربية السعودية اليوم أكثر أهمية نظرا للمساهمات التي يمكنها التقدم بها في استقرار المنطقة أكثر بكثير من كميات النفط المستخرجة من أراضيها.
المملكة العربية السعودية هي ميزان الاستقرار داخل دول مجلس التعاون الخليجي، وهو الحلف الذي رزح تحت وطأة ضغوطه الداخلية لمدة لا تقل عن 4 أو 5 أعوام مضت.
كما لعبت المملكة العربية السعودية دورا محوريا وحاسما في مساعدة مصر في استعادة اتجاهها عقب سنوات عجاف أربع من الاضطرابات المأساوية. وأي محاولة للحيلولة دون تقسيم اليمن إلى نصف دزينة من الدويلات الصغيرة سوف تستلزم تدخلا كبيرا من جانب المملكة العربية السعودية.
وهزيمة تنظيم داعش، التي تأتي من قبيل الشروط المسبقة اللازمة لاستقرار العراق كدولة قومية وكذلك إقالة سوريا من عثرتها، تتطلب مشاركة وقيادة قوية من جانب المملكة العربية السعودية.
وحينما يصبح المزاج التاريخي مواتيا لمحاولات جادة في تسوية المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية، فإن المملكة العربية السعودية، جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة، يمكن أن تلعبا دورا قياديا في تسريع وتيرة هذه العملية.
في ظل وجود القوى الانتهازية مثل إيران الخمينية التي تسعى لتقويض الاستقرار، وفي ذات الوقت تدفع لتحقيق أهداف الهيمنة لديها، كان قدر المملكة العربية السعودية أن تلعب دورها القيادي في جهود إحباط تلك الأهداف.
وبالمعنى الأوسع، ينبغي على المملكة العربية السعودية كذلك لعب دورها في إعداد التدابير المؤقتة فيما بين الشريحة الإسلامية من الإنسانية، وبقية دول العالم في مسعى مشترك حيال السلام والرخاء. قبل 10 سنوات، زعم كثيرون في الغرب، ومن بينهم أوباما ذاته، أن «الحرب على الإرهاب»، ما هي إلا شعار أجوف. أما الآن، ورغم ذلك، فهناك بعض التوافق يتأتى من الحاجة إلى مقاومة، وفي نهاية المطاف، هزيمة المتشددين. مما يستلزم، مجددا، وجود القيادة السعودية لحشد وتعبئة الطاقات المسلمة ضد الجماعات التي يعد المسلمون من ضحاياها الأول.
على غرار كافة الشراكات، فإن الشراكة الأميركية - السعودية كان لها نصيبها من النجاحات والإخفاقات. ويمكن اعتبار السنوات الـ3 الأخيرة من بين الفترات «الباردة» في تلك الشراكة. السلوك الغريب للغاية للرئيس أوباما تجاه مصر، ومنهاجه غير المنتظم حيال المأساة السورية، وموقفه الساذج بشأن القضية النووية الإيرانية، أرسلت بإشارات خاطئة إلى المنطقة، وامتدادا لذلك، تضررت العلاقات الأميركية مع المملكة العربية السعودية.
مع ذلك، فهناك إشارات تفيد بإدراك المؤسسة السياسية الأميركية أن إعادة الشراكة مع المملكة العربية السعودية إلى مسارها وأهميتها التاريخية من الأمور المطلوبة والضرورية. والسرعة التي شكل بها الملك سلمان حكومته، وضمان استقرار المؤسسات الحيوية بالدولة، أظهر استعداد الرياض لتولي دور أكثر نشاطا وفعالية في حلبة العلاقات الدولية.
مع 6 عقود من الوجود البارز في مركز النظام الحاكم السعودي والكثير من الزيارات الخارجية الناجحة، يتمتع الملك سلمان بمعرفة عميقة ومباشرة بالقضايا الدولية الكبرى، وتلك حقيقة من شأنها تنشيط الآلة الدبلوماسية السعودية في الأوقات الحاسمة.
وبالتفكير المستشرف للمستقبل، وأعني لما بعد أوباما أيضا، فإن الشراكة الأميركية - السعودية لها ذلك القدر من الأهمية والخطورة عما كانت عليه فعلا قبل 70 عاما مضت.