«لقد انتهى لبنان!» كانت كلمات خرجت من صديقي اللبناني في ذلك اليوم مليئة بالشفقة والرثاء. خرجت منه الكلمات كوابل من الكوارث حول وطنه لبنان: عدم القدرة على اختيار رئيس، والبرلمان الذي يطيل من حياته المشلولة، و«حزب الله» خادم إيران أكثر مما يخدم لبنان، والتكفيريون الذين يحاولون إقامة إماراتهم المصغرة، والنخبة السياسية التي تركز جل اهتمامها على جني الأموال أكثر من حل مشاكل البلاد.
وفي حين أن كفة تلك التأكيدات من الصحة بمكان، أو على الأقل جزئيا، فإنها ليس بمقدورها التوصل إلى استنتاج نهائي مفاده أن لبنان يحتضر بوصفه دولة.
والحقيقة، ظل منصب الرئاسة اللبنانية شاغرا منذ شهر مايو (أيار) الماضي. ومع ذلك، دعونا نلاحظ أنه مع اتفاق الطائف عام 1989، تم، وبشكل فعال، استبدال النظام الرئاسي في البلاد بالنظام البرلماني.
واليوم، عدم وجود رئيس في سدة الحكم ليس بالأمر الجيد، ولكنه لا يسبب الكثير من الضرر كذلك.
وخشية التعرض للسخرية، قد يقترح أحدنا أن عدم وجود رئيس للبنان قد يكون أفضل كثيرا من وجود رئيس سيئ على رأس السلطة هناك. ولنفكر معا كم من البلاد العربية كان حريا بها عدم وجود رئيس يدير شؤون البلاد.
لكن عدم قدرة لبنان على إجراء الانتخابات البرلمانية من الأمور التي يرثى لها فعلا. ولكن عدم وجود انتخابات أفضل حالا من أخرى مزورة، كما هو الحال في العديد من الدول. ولا يزال البرلمان طويل الأجل ممثلا لحالة الطائفية والتجمعات السياسية التي يغرق فيها لبنان.
والأخبار السارة أن البرلمان المصاب بالشلل، إضافة إلى عجزه عن العمل بصفته هيئة تشريعية مناسبة، لا يسبب المزيد من الأضرار كذلك. ومع الشلل الذي يطول الأجهزة السياسية في الدولة اللبنانية ينبغي على الدولة أن تعمل بنظام الطيار الآلي. وفي غياب التدخل السياسي، وعدم وجود الأجهزة السياسية، مثل المحاكم، فإن البنك المركزي، والبيروقراطية والجيش يعملون بصورة أفضل في واقع الأمر.
قد يخلق ضعف الجهاز السياسي بالدولة المزيد من المساحة للمجتمع المدني، بما في ذلك القطاع الخاص بالنسبة للاقتصاد، والمساجد، والكنائس، والإعلام، والجمعيات الثقافية، والنقابات المهنية، والاتحادات التجارية.
وفي الحقيقة، إحدى المشكلات التي واجهت المجتمعات العربية حديثا هي القوة الساحقة للدولة على حساب المجتمع المدني.
ويمكن لأحدنا أن يدفع بأن (على النقيض من جيل سابق من القادة) الفرع اللبناني من «حزب الله»، تحت زعامة حسن نصر الله، وفي بعض الأحيان، قد خاطر بالمصالح الوطنية اللبنانية لخدمة الطموحات الإيرانية.
ومع ذلك، فهناك إشارات تفيد بأن نصر الله، وهو من السياسيين الأذكياء، قد يكون على بينة من ضعف موقفه، فلقد بدا في مراعاة بعض الحقائق الواقعية، ومن بينها الوضع المتدهور في سوريا المجاورة، والتحدي الذي يفرضه تنظيم داعش، وإمكانية عقد الملالي لصفقة ما مع واشنطن.
يستحق خطاب نصر الله في غرة شهر محرم الدراسة.
ليست لدينا مساحة هنا لطرح التحليلات المفصلة لبعض التغييرات الذكية في طبقات صوته، ومع ذلك، فهناك 3 نقاط تستحق الذكر.
أولا، بدا نصر الله مهتزا من الأحداث التي أزعجت رؤيته المتفائلة لإيران المظفرة، باعتبارها قوة إقليمية مهيمنة.
أثارت زيادة مشكلات التدفق النقدي الإيراني، ويرجع في جزء منه إلى انخفاض أسعار النفط، جدلا في طهران حول تخفيض المساعدات المالية المقدمة إلى العملاء الإقليميين، بمن فيهم تنظيم «حزب الله» والرئيس السوري بشار الأسد.
وقد اعترف نصر الله بصورة ضمنية كذلك بأن هزيمة تنظيم داعش والحركات المماثلة لا يمكن التوصل إليها في وجود شعارات ذات طبيعة طائفية. ولقد ناشد «إخواننا، من رجال الدين السنة، وغالبية المسلمين» تولي زمام المبادرة وتحمل «مسؤولياتهم العظيمة».
يبدو أن تقلص قاعدة الدعم التي يتمتع بها «حزب الله» وفقدان قدر من التعاطف من المجتمعات غير الشيعية التي أثارها خطاب «حزب الله» المعارض لإسرائيل، يتجه لإجبار نصر الله على البدء بالتفكير بصورة أكبر في المصالح الوطنية اللبنانية.
وبالنسبة للنخب السياسية التي تنفق المزيد من أوقاتها على المصالح التجارية، فإن ذلك، أيضا، لا ينبغي أن يُعد من قبيل الأنباء السيئة، فإن الفترة الفاصلة الحالية قد تقنع بعضا منهم باعتزال مضمار السياسة والتركيز على ما يعرفونه جيدا: جني الأموال.
ينتقل بنا ذلك إلى الأمور الملموسة من الوضع الحالي، وإذا كانت تشير إلى أي شيء فهو أن لبنان، كأبعد ما يكون عن حافة النهاية، قد يكون أداؤه أفضل كثيرا من جيرانه. وفقا لتقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد اللبناني سوف يسجل معدلا للنمو بأكثر من 3 في المائة هذا العام. وقد لا تكون تلك النسبة مثيرة للانتباه كثيرا، ولكنها تُعد جيدة في الوقت الذي تعيش فيه الاقتصاديات الأخرى، من بلاد ما بين النهرين وحتى الشمال الأفريقي، حالة من الانهيار، حيث انخفض التضخم اللبناني بنسبة 1.2 في المائة مقارنة بالمتوسط الإقليمي البالغ 11 في المائة. ورغم أن لبنان قد خفض من أسعار الفائدة، فإن تدفقات رؤوس الأموال قد زادت بنسبة 3 في المائة، وتجاوزت الأصول الأجنبية للبنك المركزي اللبناني مبلغ 40 مليار دولار، وهو يُعد رقما قياسيا. وفي حين أن الدين العام اللبناني يبلغ 42 مليار دولار، وهو تقريبا الثاني على العالم، فإن الدولة حققت فائضا تجاريا قياسيا رغم ذلك.
ولقد زادت ودائع البنوك الخاصة بنحو 12 في المائة، وحافظت العملة الوطنية على قيمتها، بينما انخفضت قيم العملات الإقليمية الأخرى، مما مكّن البنوك اللبنانية من زيادة الإقراض بنحو 6 في المائة.
ولم يتحقق الانخفاض الهائل المتوقع في عدد السياح مع انتظار وصول عدد الزائرين إلى مليون زائر هذا العام.
وتزدهر سوق العقارات في بيروت، وارتفعت مؤشرات القطاع الحقيقية، مما يعني أعمال البنية التحتية في البلاد، بنحو 10 في المائة.
ومن شأن الاتفاق من قبل مجموعة العشرين على إنهاء الخصوصية المصرفية في عام 2017 أن يجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى لبنان، بوصفه واحدا من بين الملاذات الضريبية المتقلصة على مستوى العالم.
وإلى الجوار من لبنان، هناك سوريا، التي تحولت إلى أرخبيل من الأنقاض، والتي سوف تشهد يوما ما جهودا لإعادة الإعمار. وبالتالي، سوف يكون لبنان محل الشركات التي تضطلع بتلك الجهود.
كل منطقة تحتاج إلى لبنانها الخاص، وخصوصا في أوقات الأزمات، فهو مساحة ليست مغلقة في وجه أحد ومفتوحة للحوار والاستثمار والترفيه. وقد لعبت سويسرا ذلك الدور لما يربو على مائتي سنة في أوروبا التي هزتها حروب لا نهاية لها. وفي أميركا الجنوبية التي مزقتها الحروب، لعبت ذلك الدور دولة أوروغواي، وفي جنوب آسيا لعبته سنغافورة وهونغ كونغ. وفي الخليج العربي، تولت مدينة دبي ذلك الدور بصورة جزئية.
ولا يزال لبنان يواجه العديد من الأخطار والتحديات، وليس أقلها استيعاب أكثر من مليون لاجئ سوري.
ولقد سأل صديقي قائلا: «ولكن هل أنت مستعد لوضع أموالك الخاصة في لبنان؟». وجاءت إجابتي إيجابية، رغم وجود مشكلة واحدة: ليست لديّ أموال أتحدث عنها.