أمير طاهري
12 ردا على 12 ذريعة تبرر الوقوف مكتوفي الأيدي أمام معاناة شعب وانهيار مجتمع
على الرغم من كل الجهود المبذولة في عدة عواصم عالمية للتمويه على السؤال البسيط: «هل حان وقت التدخل العسكري في سوريا؟»، وإبعاده عن التداول، فإنه ما زال يفرض نفسه على أي بحث أو نقاش يتعلق بالمأساة السورية.
وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ قال مؤخرا لا مجال لقبول الـ«لا خيار»، وهي عبارة ترمز إلى جاهزية البحث في التدخل العسكري. ونقلت عن مسؤولين أميركيين وفرنسيين رفيعي الرتبة آراء مشابهة، وإن بدرجات متفاوتة من الغموض والتورية.
ولكن بشكل من الأشكال يبدو أن هذا السؤال سبقته الأحداث وما عاد – بالتالي – يستحق الطرح، لأنه يوجد حقا تدخل عسكري فعلي بصور متعددة. ذلك أن إيران وروسيا تمدان نظام بشار الأسد بالسلاح والمشورة العسكرية، ويبدو أن عناصر من الفرع اللبناني من حزب الله تشارك فعليا في المواجهات ضد وحدات المعارضة السورية المناوئة للأسد. وفي الجانب المقابل، فإن تركيا وعددا من الدول العربية منخرطة في مساعدة جماعات الثوار في الحصول على السلاح والمال منذ اندلاع القتال. ووجود مقاتلين غير سوريين يحاربون تحت رايات الثوار يمكن أن ينظر إليه على أنه تدخل عسكري أجنبي، ولو كان عفويا وغير نظامي.
مع هذا يبقى الجدال الحقيقي متمحورا حول ما إذا كان حصيفا أم عبثيا التفكير بالتدخل كخيار حاسم يقلب طبيعة ما هو حاصل. وهذا يعني أنه لا بد أن يكون من الجدية والحجم إلى درجة قلب ميزان القوى لمصلحة الثوار، ومن ثم تسريع سقوط الأسد.
الجهات التي ترفض التدخل تمثل طيفا من الآراء. منها، مثلا، «السلاميون» أو دعاة السلام المزمنون الذين يناوئون أي حرب في أي وقت ولأي مبرر كان. ثم هناك من يمكن النظر إليهم على أنهم «أيتام الحرب الباردة» الذين يناصرون بشار الأسد لأنهم يرون فيه جزءا من كتلة متنامية معادية للغرب تضم اليوم روسيا وإيران. غير أن غالبية معارضي التدخل يقدمون تشكيلة من الذرائع السياسية والعملية التي لا يجوز تجاهلها. ولدى التمعن بكل التصريحات والآراء المنشورة في هذا السياق حول موضوع التدخل ورفضه، يمكننا مناقشة الذرائع والمبررات التالية:
الذريعة الأولى تقوم على أساس أن لا وجود لاستراتيجية واضحة للتدخل. فهل المطلوب من الجيوش الأجنبية المتدخلة تدمير الآلة العسكرية للأسد ومن ثم الزحف على دمشق؟
الإجابة يجب أن تكون: «لا». إذ يجب أن يسعى التدخل المطلوب إلى تحقيق ثلاثة أهداف محددة: الهدف الأول يتمثل بفرض تطبيق حظر التسلح الذي أقرته أصلا أكثر من 100 دولة، وهو يستوجب حصارا بحريا تدعمه عمليات رصد ومراقبة جوية وبرية لكل طرق تهريب السلاح المحتملة عبر العراق ولبنان. والهدف الثاني يجب أن يتضمن إنشاء «ملاذات آمنة» وحماية هذه الملاذات من الغارات الجوية لطيران الأسد الحربي ووحدات قواته البرية المؤللة. ويذكر أنه يوجد راهنا ثلاثة «ملاذات آمنة» ولو في أطوارها المبكرة مباشرة عبر الحدود السورية مع الأردن وتركيا والعراق. وخلال الأسبوع الفائت أفلحت الأمم المتحدة في نقل إعانات إغاثية لأحد هذه الملاذات لأول مرة من دون المرور عبر أقنية نظام الأسد ومؤسساته.
الذريعة الثانية مؤداها أن الحظر المفروض من جانب القوى الغربية، وبالأخص بحرا، قد يثير معارضة روسية وإيرانية شديدة قد تشعل فتيل نزاع أخطر وأوسع نطاقا. غير أن الاحتمال ضعيف جدا، ذلك أن إيران تفتقر إلى القوة العسكرية التي تتيح لها التأثير على مجريات الأمور في حوض المتوسط وإن كان بمقدورها تحريك الفرع اللبناني من حزب الله لتنفيذ عمليات إرهابية. أما عن روسيا فهي وإن كانت قوة انتهازية تنتهج سياسة خارجية واقعية. وحتى إبان سطوة الاتحاد السوفياتي كانت روسيا تدرك تماما حدود المجازفة بمجابهة مفتوحة، كما حصل أيام الأزمة الكوبية عام 1962. وفي مطلق الأحوال تفتقر روسيا إلى القوة البحرية الكفيلة بتحدي حصار يفرضه حلف شمال الأطلسي (ناتو) في مياه المتوسط. روسيا ستدعم الأسد ما دام الثمن الذي عليها دفعه يتجاوز أي مكافآت محتملة مستقبلا.
الذريعة الثالثة هي أنه لا توجد أرضية قانونية للتدخل لأن «الفيتو» الروسي يمنع صدور قرارات عن مجلس الأمن الدولي، إلا أن غياب أي موافقة معلنة من الأمم المتحدة لا يجعل من التدخل تصرفا «لا قانونيا». في الواقع، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهدنا عشرات الحروب التي شنت من دون موافقة أو ترخيص رسمي من الأمم المتحدة، بل كانت الحروب التي أجازتها المنظمة الدولية هي الاستثناء لا القاعدة، وأبرزها الحرب الكورية عام 1951 وحرب العراق عام 1991. وعبر العقود فإن «واجب التدخل»، لدرء خطر جرائم الإبادة الجماعية مثلا، غدا جزءا من ثقافة العدالة الدولية. ففي عام 1978 غزت قوات فيتنام المسلحة أراضي كمبوديا لإطاحة حكم الخمير الحمر ووقف جرائم الإبادة. وبعدها ببضعة أشهر دخل الجيش التنزاني أوغندا لإسقاط حكم عيدي أمين العسكري. ثم في عام 1983 اجتاحت قوات أميركية على رأس قوات حليفة جزيرة غرينادا في البحر الكاريبي بهدف تحرير مئات الرهائن وتغيير النظام القائم هناك. في أي من هذه الحالات ما كان هناك ترخيص من الأمم المتحدة للتحرك. والمبدأ نفسه طبق لتبرير التدخل في البوسنة والهرسك، ثم لاحقا في كوسوفو لوقف المجازر والإبادة الجماعية، وفي هاتين الحالتين شل تهديد «الفيتو» الروسي مساعي الأمم المتحدة. وفي كلمة أمام الجمعية العامة عام 1999 تحمل كوفي أنان، أمين عام الأمم المتحدة آنذاك، علانية المسؤولية الأخلاقية في مجازر رواندا، عندما قال: «حبذا لو كان ثمة تحالف دولي، في تلك الأيام والساعات السوداء المفضية بنا إلى المجزرة الكبرى، جاهزا للتحرك بهدف الدفاع عن السكان من شعب التوتسي من دون تفويض من مجلس الأمن. هل كان ذلك التحالف سيقف مكتوف الأيدي أمام الفظائع التي تكشفت أمامنا فصولا؟». ومن ثم أكد أنه لا يجوز للعالم أن يقف متفرجا عندما تقع انتهاكات جسيمة وممنهجة ضد حقوق الإنسان، وتحدى المجتمع الدولي لتبني فكرة «التدخل الإنساني» كمبدأ شرعي وشامل.
الذريعة الرابعة هي أن الواقع الجغرافي لسوريا يجعل من التدخل أكثر صعوبة من التدخل في ليبيا. ولكن العكس، حقا، صحيح، فليبيا هي الدولة الـ17 في قائمة الدول الأكبر مساحة في العالم بينما تحتل سوريا المرتبة الـ89. وحصار ليبيا كان يعني عزل واجهة ساحلية طولها 1770 كلم، في حين لا يزيد طول الساحل السوري عن 193 كلم. ثم إن حدود ليبيا البرية ضعفا طول حدود سوريا، ناهيك بأن أربعة من جيران سوريا الخمسة ليسوا متحمسين لبقاء نظام الأسد أو ليس لديهم الاستعداد لدعمه.
الذريعة الخامسة هي أنه نظرا للتكلفة العالية للتدخل بات من الصعوبة الترويج لفكرة التدخل في الدول الغربية التي تعاني من المديونية والانحدار الاقتصادي. ولكن حتى إذا كان سلمنا أن الحروب حقا مكلفة، فإن السماح بتحول سوريا إلى أرض «مستعصية على الحكم»، وبالتالي بؤرة للإرهاب والجريمة مطلة على البحر المتوسط، سيكون أمرا أعلى تكلفة بكثير على المدى الطويل. ثم إن «السيناريو» الأسوأ هو أن تتحول الحرب الأهلية السورية إلى مقدمة لحرب إقليمية أوسع نطاقا على غرار ما حدث مع الحرب الأهلية الإسبانية بين 1936 و1939. إن الرأي العام الغربي قد لا يؤيد تدخلا عسكريا اليوم، لكن السبب في ذلك أنه لم يُفتح نقاش جدي حول الموضوع، ولم يطلع الرأي العام بما فيه الكفاية على الحجج والحجج المضادة في هذا الشأن. وعليه فإن نقاشا صريحا وجيدا كفيل بتجييش الرأي العام لصالح تدخل إنساني.
الذريعة السادسة هي أنه بخلاف ليبيا، التي هي مجتمع متجانس، فإن سوريا عبارة عن فسيفساء دينية ومذهبية وعرقية، وهذا ما قد يعني أن التدخل العسكري لن يثمر حقبة انتقالية سلسة. غير أن الواقع غير ذاك، فليبيا أيضا بلد له تعدديته، فالعرب والأمازيغ والأفارقة السود يشكلون جماعات مختلفة جمعها تحت كيان واحد الحكمان الاستعماريان الإيطالي والبريطاني، واستمرا تحت قبضة ديكتاتورية العقيد معمر القذافي. وشرق ليبيا (برقة) وغرب ليبيا (طرابلس) كانا إقليمين منفصلين ومتميزين منذ العهد الروماني. وحتى على صعيد الدين، تضم ليبيا عشرات الجماعات والطوائف الإسلامية، ومنها ما تأثر بالثقافات الشعبية القبلية. وبناء عليه، صحيح أن سوريا أغنى من ليبيا على صعيد التعددية الفئوية، غير أن الصحيح أيضا أن 70% من سكانها على الأقل هم من العرب المسلمين السنة. وأخيرا، من قال إن التنوع يجب أن يكون حائلا دون توق دولة ما إلى الحرية؟
الذريعة السابعة هي أننا، كمراقبين، لا نعرف ما يمكن أن يحدث في حال إسقاط النظام. وأنه لا وجود لـ«ديمقراطيين» في سوريا، ما يعني أن ما سينتج عن التدخل الأجنبي سيكون إما الفوضى وإما ديكتاتورية جديدة بديلة. ولكن هذا الكلام مردود عليه بالقول إنه، وإن كان التشاؤم خيارا حكيما وحصيفا لدى التعامل مع سياسات الشرق الأوسط، من الخطأ القبول باستمرار المجازر لا لشيء إلا الخشية من بديل أسوأ. لا وجود لـ«ديمقراطيين» في سوريا لأنه لم يتَح للديمقراطية بأن تزهر وتثمر، ومحاولة تحميل المسؤولية في هذا أشبه بأحجية «أيهما سبق الآخر وأيهما تسبب عنه.. الدجاجة أم البيضة؟».
الذريعة الثامنة هي أنه يستحيل فرض الديمقراطية بالقوة. هذا كلام صحيح. ولكن بالإمكان استخدام القوة لإزالة ما يعيق تحقيق الديمقراطية كما حدث في حالة الحرب العالمية الثانية مع ألمانيا واليابان. وعلى أي حال، يظل الهدف الحيوي العاجل من أي تدخل وقف قتل الشعب السوري لا إرساء الديمقراطية في سوريا. ولا بد أن تكون الخطوة الأولى منح الشعب السوري الحق في تقرير مصيره بنفسه، وما سيفعله الشعب لاحقا بمسائل مثل السيادة وطبيعة النظام السياسي الذي يفضلون تأسيسه فسيكون من شأنه لا شأن الآخرين.
الذريعة التاسعة هي أنه بعكس معمر القذافي، الذي تخلى عن أسلحة الدمار الشامل، ما زال لدى بشار الأسد كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية التي قد يقرر استخدامها ضد شعبه كخيار أخير يائس. إن احتمال استخدام الأسد السلاح الكيماوي احتمال لا يجوز الاستخفاف به، وكما نذكر سبق للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وهو بعثي مثل الأسد، أن استخدم السلاح الكيماوي لقتل آلاف الأكراد في حلبجة. ولكن من غير المسموح إطلاقا للأسد ابتزاز شعبه والإنسانية جمعاء بترسانته الكيماوية، بل إن القلق من إمكانية وقوع مجازر أفظع لا يجوز أن يبرر تجاهل مسلسل القتل اليومي.
الذريعة العاشرة هي أن الأسد عندما يجد نفسه أمام خطر تدخل عسكري كبير تشنه القوى الغربية، قد يقرر أن يهدد أو يهاجم إسرائيل بالتعاون مع حزب الله، ومنظمة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وكلاهما تحت إمرة إيران. غير أن هذا الاحتمال أبعد ما يكون عن الواقع. ذلك أن نظام الأسد – في عهدي الأب والابن – استغل القضية الفلسطينية على الدوام ذريعة مفيدة تبرر الحكم التسلطي المطلق، ولكن مع الحرص على تجنب أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل. وعلى أي حال، من غير الجائز القبول باستمرار قتل الشعب السوري باعتباره ثمنا يدفعه العالم للأسد لقاء تعهده بالامتناع عن تهديد إسرائيل. لقد كانت القضية الفلسطينية المهرب الأخير لكثرة من المحتالين على امتداد أكثر من ستة عقود، وفي وقت من الأوقات استخدم صدام حسين القضية الفلسطينية لتبرير ارتكابات نظامه القاتل.
الذريعة الحادية عشرة هي أن التدخل العسكري قد يدمر أي أمل في حل سياسي، وبالتالي لماذا لا يتاح للدبلوماسية لاستخدام كل وسائطها وتدابيرها قبل التفكير بخيارات أخرى؟ هذا حقا كلام طيب، وحتما يجب أن يكون اللجوء إلى القوة الخيار الأخير، وإذا كان بالإمكان فك عقد الحبل باستخدام الأصابع فلماذا يعجل المرء باللجوء إلى السيف لقطعه؟ ولكن في المقابل لا يصح جعل الدبلوماسية «ورقة توت» تستر الشلل والتواطؤ. فعلى امتداد أكثر من سنتين أطلقت مبادرات دبلوماسية كثيرة، بينها مهمتان تولاهما كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، وهما من أبرز دبلوماسيي العالم. ومن المعلومات التي أمكننا الحصول عليها عرض الإبراهيمي خطط تسوية غاية في الإنصاف والواقعية. ثم بالأمس، ذهب معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض إلى أبعد من هذا، عارضا مفاوضات مباشرة مع النظام مع ما في هذا من تعريض نفسه لتهم يصل بعضها إلى خيانة القضية، ولكن مع كل هذا اصطدمت كل محاولات تطبيق استراتيجية سلمية برفض مطلق من نظام الأسد. وهكذا يمكن اتخاذ القرار بالتدخل بعد تحديد مهلة أخيرة للأسد لكي يراجع نفسه ورهاناته.
الذريعة الثانية عشرة مستقاة من الحسابات المكيافيللية، ومضمونها التساؤل: لماذا لا تحمل إيران وروسيا معا لفترة أطول أعباء إطالة عمر نظام الأسد المحكوم بالزوال على أي حال؟ أساسا كلفت سوريا لتاريخه إيران أكثر من عشرة مليارات دولار، وهذا في فترة يتهدد فيه إيران انهيار اقتصادي كبير، كما أضحت سوريا بالنسبة إلى إيران حليفا بشعا ومكلفا. وبالتالي لو تركت الأمور على ما هي عليه لفترة أطول قد تجر سوريا إيران معها إلى الهاوية. أما في ما يخص روسيا، فلماذا لا يترك فلاديمير بوتين يرسخ صورته في العقل العربي كضامن للطغاة؟ لقد سمينا هذه الجدلية بأنها «ماكيافيللية»، ولكن ربما كانت صفة «شيطانية» أوفق وأقرب إلى الحقيقة. فهل من المقبول التضحية بالشعب السوري فقط لتركيع إيران وعزل روسيا، كعدو، عن العالم العربي؟ إننا بينما نتفكر بسؤال كهذا هناك أناس يموتون في سوريا.