على امتداد عقود، اتسمت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بمحاولات لإبرام اتفاق في اللحظات الأخيرة. وقد بدأ هذا الأمر عام 1978 قبل استحواذ الملالي على السلطة. وتوضح معلومات تم الكشف عنها مؤخرا أن شخصيات بارزة بالنظام الخميني، أهمها آية الله محمد بهشتي الذي كان يعد رجل الجمهورية الإسلامية القوي حتى اغتياله عام 1981. عقدت اجتماعات سرية مع عدد مع الدبلوماسيين الأميركيين وعملاء وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه.).
وتبعا لتقارير نشرت للتو حول فحوى هذه الاجتماعات، فإن الملالي طلبوا الحصول على دعم أميركي، بحجة أنهم إذا لم يصلوا للسلطة، ستسقط إيران في قبضة الشيوعيين الموالين للاتحاد السوفياتي. وبالفعل، اقتنع الرئيس جيمي كارتر بهذه الحجة وبعث أحد نواب قادة حلف الناتو، وهو شخص أشير إليه باسم جنرال هويسر، لطهران لإقناع المؤسسة العسكرية الإيرانية بإعلان «الحياد» وترك الملالي يسيطرون على السلطة.
عام 1984. استغل الملالي ذات التكنيك مجددا لإقناع الرئيس رونالد ريغان بأن هزيمة الجمهورية الإسلامية في الحرب ضد العراق، ستسفر عن سيطرة فئات أكثر راديكالية على السلطة، في الوقت الذي قد يتحرك فيه صدام حسين المنتصر ضد إسرائيل.
خلال تلك المحادثات اضطلعت إسرائيل بدور الوسيط، ووافق ريغان على تقديم أسلحة لإيران لمساعدة الخميني على قلب موازين الحرب. وتولى أميرام نير، وكان حينها نجما صاعدا في جهاز الموساد، الإشراف على شحنات الأسلحة. وأشرف هاشمي رفسنجاني على الاتصالات السرية، بينما عمل حسن روحاني كجندي مشاة في المناورات الغامضة التي أدت لفضيحة «إيران غيت».
اليوم وبعد سيطرتهم على رئاسة الجمهورية الإسلامية، يستخدم الفصيل ذاته نفس الأسلوب لإبرام اتفاق مع الرئيس باراك أوباما الذي يبدو متلهفا على تسجيل «نصر» يغطي على الفوضى التي تسبب فيها بمجال السياسة الخارجية.
من جانبه، يدعي فصيل رفسنجاني أنه من دون إقرار واشنطن اتفاقا مع طهران حول الملف النووي للأخيرة، ستفوز العناصر المتشددة في إيران في دورتين انتخابيتين محوريتين من المقرر عقدهما قريبا. في المقابل، فإنه حال عقد اتفاق، سيتمكن هذا الفصيل من الشروع في «السيطرة على مفاصل السلطة الأخرى»، بهدف إغلاق فصل الثورة وتحويل إيران إلى «دولة طبيعية».
ويعتقد رفسنجاني والدائرة المقربة منه أن بإمكانهم إخراج إيران من مرضها الثوري عبر الفوز برئاسة مجلس الخبراء في مارس (آذار) المقبل. وترجع أهمية هذا المنصب الشاغر منذ وفاة آية الله مهدوي كاني في أكتوبر (تشرين الأول)، إلى أن المجلس المؤلف من 86 عضوا هو الذي يختار «المرشد الأعلى».
من جانبه، يحاول المرشد الأعلى علي خامنئي دفع أحد بيادقه، آية الله محمود شهرودي، لشغل المنصب. إلا أن رفسنجاني أبدى عزمه على الترشح للمنصب. وفي حال فوزه، سيتحول إلى سيف مسلط على رقبة خامنئي.
كما أن فوز خامنئي سيجعل فصيله في مركز قوي يمكنه من الفوز بالأغلبية في الانتخابات المقبلة للمجلس. ويتمثل الهدف التالي لفصيل رفسنجاني في الفوز بأغلبية مجلس الشورى الإسلامي. وبالنظر لسيطرته الراهنة على وزارة الداخلية، التي تتولى تنظيم الانتخابات، فإن هذا الفصيل يملك فرصة جيدة لترتيب النتائج، شريطة أن يسيطر على مجلس الأوصياء، أو على الأقل يرشي أو يهدد عددا كافيا من أعضائه كي يقروا نتائج الانتخابات.
والملاحظ أن الملالي السياسيين حرصوا دوما على اتباع من بيديه مقاليد السلطة. وعليه، فإنه حال فوز رفسنجاني بسلطة كافية داخل المؤسسة الحاكمة، فإنه لن يجابه صعوبة تذكر في إقناع الكثير من الملالي بتغيير ولاءاتهم، بل إن بعض أفراد فصيل رفسنجاني بدأوا الحديث بالفعل عن «اليوم الذهبي» الذي يصبح فيه رفسنجاني «المرشد الأعلى»، وربما يضم إليه حينها أيضا منصب رئيس الجمهورية.
أما العنصر الأكثر إثارة في جميع القصص السابقة، فهو أن الإدارات الأميركية المتعاقبة وقعت ضحية الحيلة ذاتها مرارا، حيث انتهى بها الحال داعمة لفصيل في مواجهة آخر، في خضم صراع سلطة ميز الحقبة الخمينية منذ بدايتها.
بيد أن المشكلة تكمن في أنه لا تملك أي من الفصائل المتناحرة، السلطة الكافية لتحقيق ما ترغبه واشنطن، وهو بناء إيران صديقة لا تحاول استثارة المشكلات في الشرق الأوسط باسم الإسلام أو الثورة. ويكمن السبب وراء ذلك في أن الشخصيات أمثال خامنئي ورفسنجاني وغيرهما لا يمكن أن يصبحوا فاعلين سوى داخل إطار الحركة الخمينية. أما خارج هذا الإطار، فإنه لا وزن لهم لأن غالبية الإيرانيين سقطت من على أعينهم غشاوة الخمينية.
ويخلق هذا الوضع معضلة حقيقية، حيث يتعين على رفسنجاني إقصاء نفسه بعيدا عن الثورة للفوز بالدعم الأميركي، بينما يتحتم عليه في الوقت ذاته معاداة واشنطن، أو على الأقل التظاهر بذلك، كي يمارس نفوذا داخل إطار الثورة.
وخلال السنوات الأخيرة، ازداد الأمر تعقيدا جديدا وهو صعود نفوذ المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي على الأقل فيما يخص الجيل الأصغر، لا تدين بشيء للملالي. اليوم، تتألف قوات النخبة داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية من آلاف الشباب على مستوى رفيع من التعليم، ولديهم خبرة حقيقية في عدة مجالات. في المقابل، يخسر الملالي على الصعيدين، ذلك أن نشاطهم السياسي لم يوفر لهم فرصة لتنمية ثقافتهم الدينية بما يكفي، وبالتالي يتعذر عليهم ادعاء الشرعية أو المطالبة بنيل التقدير على أسس دينية. في الوقت ذاته، يواجهون النبذ من قبل النخبة الدينية الرفيعة في النجف وقم.
الملاحظ أنه طيلة عقود، مارست واشنطن وأنظمة ديمقراطية أخرى لعبة «الصقور والحمائم» مع الاتحاد السوفياتي. وعجز صانعو السياسات في الغرب عن فهم أنه حتى أكثر حمائم الاتحاد السوفياتي «حمائمية» لن يمكنه تقديم النتيجة المرجوة، وهي إنهاء سياسات الاتحاد السوفياتي المعادية للديمقراطية الغربية.
وقد تظاهر بعض الحمائم، أبرزهم ليونيد بريجينيف، بفعل ذلك، لكنهم أخفقوا في تحقيق ذلك لإدراكهم أنه لا قيمة لهم خارج إطار احتكار الحزب الشيوعي للسلطة السياسية. وقد حاول ميخائيل غورباتشوف، أحد الحمائم، تغيير الإطار، لكن انتهى به الحال بتدمير الإمبراطورية السوفياتية. وفي العام التالي، عندما خاض الانتخابات لرئاسة روسيا، حصد أقل من واحد في المائة من الأصوات، بمعنى أنه خارج إطار الاتحاد السوفياتي لم تكن له قيمة تذكر.
في الواقع، إن مشكلة إيران ليست خامنئي، فحتى لو تمكن رفسنجاني من إزاحة خامنئي، وهو أمر مشكوك في قدرة رفسنجاني على تحقيقه، فإن الإطار القائم الآن لا يسمح لإيران بالتحول إلى دولة طبيعية.
إذن الحل ليس تغيير الأفراد، وإنما تغيير النظام، وهذا ليس بمقدور رفسنجاني.