بقلم : حسام عيتاني
تقول أرقام وزارة الصحة اللبنانية إن 222 ألف إصابة بمرض «كوفيد - 19» (كورونا) قد سُجلت في لبنان منذ بدء ترصّد الوباء قبل نحو عام حتى اليوم. من بين الحالات ما زالت هناك 77 ألف حالة نشطة، فيما تعافى المرضى الباقون. تجاوز عدد الوفيات الألف وستمائة، فيما امتلأت أسرّة المستشفيات التي أُصيبت طواقمها الطبية بالإنهاك وبدأت تنفد تجهيزاتها.
وثمة 1549 حالة استشفاء، فيما يرقد 585 مريضاً في غرف العناية المركزة. وتجاوز معدل الوفيات اليومية عشر حالات ليصل في بعض الأيام إلى 23 حالة، ويتوقع الأطباء أن يرتفع معدل الوفيات مع ارتفاع أعداد المصابين. بكلمات ثانية، أُصيب 4% من اللبنانيين بـ«كورونا» حسب الأرقام الرسمية، في حين يشير بعض الخبراء إلى أن النسبة أكبر من ذلك بسبب عدم إجراء قسم من المرضى للفحص المعروف باسم «بي سي آر» وبقاء آخرين في منازلهم متخذين إجراءات الحجْر والعلاج المتاحة. كما أن نسبة المصابين الذين لا تظهر عليهم عوارض المرض غير معروفة. يُذكر أن نسبة النتائج الإيجابية للفحوصات تصل إلى 20% في أيام معينة، ما يعطي فكرة عن حقيقة الوضع في منأى عن الأرقام الرسمية.
تدور الأحاديث اليومية التي لا يمكن التثبت من صحتها بيد أنها تعكس المناخ العام، حول آلاف الحالات غير المعلن عنها لأشخاص فضّلوا تحمل المعاناة بصمت وتجنّب البحث عن سرير في المستشفيات الحكومية والخاصة، وعن تفشي الوباء في السجون والأحياء الفقيرة. الافتقار إلى العناية والتمويل اللازمين يترك مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين مساحات مفتوحة للفيروس، حيث يصل مستوى الاستشفاء إلى حدود الصفر من دون أن تكون ثمة أرقام دقيقة باستثناء تلك التي تُبلّغ إلى دوائر الصحة اللبنانية.
لإدراك معنى هذه الأرقام ينبغي التذكير بأن عدد سكان لبنان لا يزيد على ستة ملايين إنسان يحتشدون على مساحة ضيقة هي 10400 كيلومتر مربع تقريباً. أي أن الاكتظاظ واقع مقيم. وفي الخلفية تبرز أزمات سياسية تَحول دون تشكيل حكومة منذ خمسة أشهر وانهيار اقتصادي أسفر عن انكماش يصل إلى 20% وأتاح لأصحاب المصارف منع المودعين من الحصول على أموالهم. يضاف إلى ذلك كارثة انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) الماضي التي ما زالت تبعاتها تتوالى ودخل التحقيق فيها دهاليز السياسات الطائفية والحزبية.
يستسهل أصحاب المناصب الحكومية، يساندهم عدد من وسائل الإعلام، إلقاء مسؤولية تفشي المرض بهذه المعدلات غير المعقولة، على المواطنين الذين أهملوا الالتزام بضوابط التباعد الاجتماعي والإغلاق العام والاندفاع إلى الاحتفال بعيدي الميلاد ورأس السنة.
هذا كلام خفيف ولا يسنده سند.
ومن دون التذكير بسلوك المسؤولين المباشرين عن الصحة العامة الذين أقاموا حفلات الرقص بالسيف والترس وشاركوا بالموائد المزدحمة في الوقت الذي كان الفيروس يمد تيجانه في كل الاتجاهات، ومن دون الإشارة أيضاً إلى انعدام الكفاءة القياسي عند أكثرية المشرفين على الوضع الصحي وعلى هيئات إنفاذ القانون وتطبيقه والفساد المستشري في صفوفهم، يتعين القول إن كل الإجراءات التي فرضتها السلطات جاءت من دون تصور عام أو خطة لمحاربة المرض وحصاره ومنع تفشيه في قطاعات جديدة من السكان.
فلا خطة للتعويض على أصحاب المداخيل المرتبطة بالعمل اليومي، ولا تصور لكيفية حمل المستشفيات الخاصة، الباحثة عن الربح المالي، على تخصيص غرف إضافية لمرضى «كورونا»، ولا فكرة عند مسؤولي الدولة اللبنانية عن عواقب كارثة مثل هذه التي يسهمون في توسعها، على مستقبل الصحة العامة - الجسدية والنفسية - أو معنى العيش تحت طبقات من الكوارث الاقتصادية والصحية والسياسية، من دون بصيص أمل واحد في الأفق.
هذا الوباء لا يقل عن تشخيص إضافي لمعنى الدولة الفاشلة التي وصل لبنان إليها. دولة تتوقف فيها وظائفها الحيوية واحدة تلو الأخرى من اقتصاد وقضاء وتعليم بحيث لا يبقى منها إلا أجهزة القمع والقسر ولا يعود أمام اللبنانيين والمقيمين في هذا البلد غير الخضوع لتعبير السلطة عن أقسى درجات التخبط والاعتباط.
والحال أن الانتشار الكثيف للوباء ليس سوى جزء من كارثة شاملة سقط لبنان فيها، ويفاقمها وجود جماعة حاكمة تتبارى في اختراع الصراعات السخيفة ومحاولات السيطرة على ما تبقى من ثروات البلد. وإذا أخذنا السجال بين رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، وحليفه السابق رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، على سبيل المثال لا الحصر، نجد تنازعاً مؤذياً بقدر ما هو مفتقر إلى المعنى، على السلطة. نزاع ينتمي إلى عالم أفل وإلى ماضٍ ولّى ولن يعود.
وهذا وجه من وجوه المأساة اللبنانية: المستقبل هو دائماً صورة سيئة عن الماضي.