بقلم : حسام عيتاني
لا تكتسب أي قضية معناها وقيمتها إلا من اندراجها في مخطط عظيم لا يقيم اعتباراً لبشر فانين ولا لحياة قصيرة على هذه الأرض. القضايا هي التحضير اليومي لأمر جلل يتجاوز قدرات الناس على الفهم وحدود استيعابهم للمصير الذي سيداهم يومياتهم.
بهذا المنطق المقلوب المستل من عتمات الماضي، ينطلق التحليل الرائج في المشرق العربي وعلى ساحات الممانعة: القضية أهم من أصحابها لأنها تنتمي إلى ما يفوقهم خطراً. القضية الفلسطينية لا تنتهي بحصول الشعب الفلسطيني على حقه في العيش الكريم على أرضه، بل إنها أعظم من ذلك. إنها تجسيد لصراع الخير والشر الأزليين اللذين سيتواجهان ذات يوم في أكناف بيت المقدس. حتى ذلك الحين، ليمُت مَن يموت وليُذل مَن يُذل. فكل تسوية خيانة وكل تفاوض تفريط. بؤس القاطنين في المخيمات وأمراضهم وفقرهم تفاصيل لا يتوقف عندها عالم بخفايا الأمور ولا ذو بصيرة.
وبقاء سوريا لا رابط له بسحق السوريين وتدمير مجتمعهم وتشريدهم في المنافي وتغيير ديموغرافية بلدهم... ذاك أن النظام المقاوم في دمشق جزء من خريطة المنطقة كما يجب أن تكون وليس كما يريدها سكانها. خريطة يرسمها دهاقنة يدافعون عن سلطاتهم ويفاوضون أعداءهم وينشرون الجهل والفوضى والظلام في سبيل تحقيق تصورهم المريض عن العالم.
هذا المنطق المقلوب الذي يُفرغ الشيء من مضمونه والقضية من قيمتها ليحول الأشياء إلى أصنام تُعبد وتُقدم لها القرابين، ليس جديداً في بلادنا. الصراع حول الأولويات والمعنى الذي يختصره الخلاف الجذري حول قيمة الحياة البشرية ومركزية موقعها من السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، لم ينتهِ بعد. بل، للأسف، يشهد تراجعاً سريعاً نحو وثنية جديدة ترفع شعارات «الجهاد» والقضايا الكبرى.
مثال على ذلك تغريدة أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الشيخ صادق النابلسي التي بخس فيها من أهمية المآسي التي يعيشها اللبنانيون واعتبرها إلهاء عن قضايا أهم. وقال: «تحويل اهتمام الرأي العام بعيداً عن القضايا الحقيقية نحو قضايا هامشية: مصر: نقل تماثيل أثرية من الأقصر إلى ميدان التحرير. – لبنان: سعر الدولار... الرغيف... البنزين... انقطاع الكهرباء» (لو بذل أستاذ العلوم السياسية دقيقة من وقته للاحظ أن ما نُقل هو مومياوات وليس «تماثيل أثرية»، وأن النقل جرى من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة في مدينة الفسطاط، وأن الأقصر تبعد مئات الكيلومترات عن المكانين اللذين جاءت وذهبت المومياوات إليهما ومنهما، لكن ليس هذا ما يعنينا هنا).
تختصر هذه التغريدة موقفاً استعلائياً مما يشغل الناس العاديين: أن تهتم بسعر العملة الأجنبية التي تتحدد وفقاً له قيمة راتبك وقدرتك الشرائية وعليه ما سيأكل أولادك وإذا كنت ستتمكن من شراء المأكل والملبس لهم، فهذا سقوط في فخ من يحول اهتمام الرأي العام عن القضايا الحقيقية التي لا بد أنها تشغل بال الشيخ النابلسي دوناً عن النوافل والتوافه من مثل الرغيف والبنزين والكهرباء. فهذه على الأرجح مما لا ينشغل بها إلا العوام الذين يفضلون الحياة الدنيا على واجباتهم حيال قضايا يحدد أولوياتها وأهميتها رجال علم ينتمون بالنسب وبالشهادة الجامعية إلى نخبة قياديي الحزب الذي أعلن أمينه العام أن عناصره ما زالوا يتلقون رواتبهم بالعملة الصعبة.
المسألة لا تقتصر على إفراغ القضايا من مضمونها من أجل ضمان سيطرة دائمة وسلطة غير قابلة للشك والمساءلة، بل إنها تصل إلى فهم سحري لمعنى القضايا ذاته، فهم يقوم على اتصال القضايا بغيب لا يُفصح عن مقاصده ولا سبيل لفهم كنه أسبابه ودوافعه، تماماً مثلما لا يفهم اللبنانيون لماذا يدافع «حزب الله» عن الفساد ويعطل كل جهود الإصلاح ويخون مَن يتجرأ على المطالبة بإسقاط الطبقة السياسية المجرمة التي تسببت في تدمير العاصمة بيروت وقتل مئات الأبرياء. والأمر ذاته ينطبق على الغزيين الذين يرون سلطة حركة المقاومة الإسلامية «حماس» عندهم تترسخ وتتعزز ترسانة صواريخها من دون أن يكون في الأفق أي تصور لوقف المعاناة الناجمة عن الحصار الإسرائيلي القاتل أو لخوض القتال ضد الاحتلال. وهكذا مع كل القضايا المجمدة التي يُحظر نقاشها ونقد الممارسات التي تحيلها كوارث ومصائب على أصحابها بدلاً من أن يجدوا السبيل العقلاني لحلها وإنهائها لمصلحتهم.
لا تصدر أهمية أقوال الشيخ النابلسي من شخصه الكريم، بل من اتساقها مع خطاب وممارسة ساهما مساهمة خطيرة في تدمير أي مقاربة قادرة على استشراف المستقبل وتحقيق مصالح شعوب هذه المنطقة. بل إنهما يدفعان بها وبهم إلى قرون مديدة من الشقاء.