غسان الإمام
في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا الحديث، أقول إن العلاقة السورية/ العراقية مرت بمرحلتين: علاقة العاطفة القومية المشتركة التي تحدثت عنها في الثلاثاء الفائت. ثم علاقة المصلحة السياسية والاقتصادية. وكان انقلاب سامي الحناوي (1949) فاصلا «إنجليزيا» بين المرحلتين. وكان للإنجليز نفوذ وامتيازات في عراق نوري السعيد، بحيث بدا استقلاله في نظر العرب مجتزأ وغير كامل.
في الصراع على سوريا، عاد هذا البلد العربي إلى «الحظيرة» الأميركية بانقلاب أديب الشيشكلي الذي كان أول من أرسى الديكتاتورية العسكرية في سوريا، على حساب الديمقراطية الوليدة، متجاوزا انقلابي حسني الزعيم والحناوي اللذين شارك فيهما!
بات الشيشكلي شديد الوطأة على السوريين والطبقة السياسية، بحيث عاد العراق ليبدو الجار القريب المرشح للإنقاذ. لدهشة الديكتاتور البالغة، فقد علم باحتمال لجوء قادة اليسار الاشتراكي والقومي (عفلق. البيطار. الحوراني) إلى عراق نوري السعيد. ثم تحولت الدهشة إلى صدمة، عندما علم أيضا أن قوى اليمين السوري التقت سرا في ظل السياسي المخضرم هاشم الأتاسي. وقررت إيفاد الشيخ معروف الدواليبي إلى بغداد.
اقترح الشيخ الدواليبي في زيارته السرية أن يقود بنفسه «جيش الغزو» العراقي! لكن نوري السعيد حاكم العراق الفعلي رفض الاقتراح جملة وتفصيلا، مكتفيا بتقديم الدعم الدبلوماسي، وبعض المال السياسي الذي «ترسمل» به بعض ساسة اليمين السوري في خمسينات الصراع العربي والدولي على سوريا. وكان بينهم نائب للرئيس جمال عبد الناصر (صبري العسلي) الذي سارع إلى الاستقالة نافيا ما ورد عنه في وثائق الانقلاب العراقي (1958).
المغامرة السياسية تحتاج إلى الذكاء. وأنا في مهنتي الصحافية أحب الذكاء في السياسي. وعندما نشرت في التسعينات، هنا في هذه الجريدة، تفاصيل «المقام البغدادي» في حياة الشيخ الدواليبي، لتعريف الأجيال العربية، ببعض ما خفي عليها من السياسات العربية، سارع الدواليبي إلى نفي الزيارة على صفحات «الشرق الأوسط»!
حرصت في حياتي الصحافية، على عدم الدخول في جدل مع السياسي أو الصحافي أو القارئ. لكن حرصي على مصداقية «الشرق الأوسط» جعلني أدعم روايتي للأحداث، بالمذكرات التي نشرها لاحقا الدكتور فاضل الجمالي. وكان الراحل الجمالي رئيسا لحكومة العراق خلال زيارة الدواليبي. هنا يتجلى ذكاء الشيخ الدواليبي. فأكبرت فيه عودته الجريئة إلى الاعتراف بالزيارة.
وأضيف اليوم أن الدواليبي كان في الواقع أحد زعماء حزب الشعب اليميني الذي كان يتكتم هواه بليلى العراقية. وكان الحزب صاحب الأغلبية النيابية في مجلس نواب الخمسينات. ومثلت قيادة الحزب الحلبية، وفي مقدمتها الدواليبي، البورجوازية التجارية هناك التي استقطبت بنجاح قوى عشائرية. وإقطاعية. وليبرالية. ودينية. وغدت حلب شديدة الهوى بالعراق، لكونها «الميناء» الذي يصدر، عبر الساحل السوري، المحاصيل الزراعية الوفيرة للشمال السوري والعراقي.
سقطت ديكتاتورية الشيشكلي بانقلاب عسكري داخلي، من دون تدخل عراقي. وتجلت فطنة الرجل في انسحابه السريع إلى لبنان، على الرغم من قدرته على سحق المحاولة الانقلابية. ثم اعتزاله السياسة. وهجرته إلى البرازيل، حيث اغتاله هناك عام 1964 شاب درزي، انتقاما من اجتياحه جبل الدروز بالقوة العسكرية.
ولم يكن نظام شكري القوتلي في الأربعينات ثم الخمسينات، من هواة الوحدة مع العراق. وقد رفض بشدة مشروع وحدة «سوريا الكبرى» الذي اقترحه فرع الأسرة الهاشمية المالك في الأردن، مُؤْثرا الاقتراب من مصر والسعودية. هذا الاقتراب كلف القوتلي خسارة رئاسة الجمهورية، عندما أحاله الرئيس عبد الناصر إلى «التقاعد» برتبة «المواطن العربي الأول».
في عام 1956، استقدم الشيوعيون السوريون الشاعر العراقي الكبير مهدي الجواهري، من منفاه في الدول الشيوعية، للاستعانة به في تدمير ما بقي من جسور الوصل والاتصال بين اليمين السوري وعراق نوري السعيد. فألقى في الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاغتيال العقيد عدنان المالكي قصيدته الشهيرة: «خلفت غاشية الخنوع ورائي/ وأتيت أقبس جمرة الشهداء».
كان الحزب الفاشي «السوري القومي» اغتال المالكي نائب رئيس أركان الجيش بعد سقوط الشيشكلي، أمام جمهور ملعب لكرة القدم. وباغتيال المالكي، تحول العلويون من الرهان على الحزب الفاشي، إلى الرهان على حزب البعث العربي الاشتراكي، للوصول إلى السلطة.
كان أكرم الحوراني (الذي وحد حزبه الاشتراكي مع البعث القومي) وراء إدخال ألوف العلويين الجيش السوري في الخمسينات. وجاء اغتيال المالكي رجله القوي في الجيش، بمثابة تنبيه مبكر له لخطر تسييس و«تطييف» الجيش الذي ما لبث أن قضى على مستقبل الديمقراطية. وعندما أفاق الحوراني الذي كان المحرك للسياسة السورية (1943/1963) على الخطر الطائفي، كان الوقت قد فات.
الهوى السوري بالعراق شديد التداخل بالحياة السياسية السورية. واضطررت لاقتصار الرواية على حكايا الهوى. ولعل العمر إذا طال بي، يسمح بنشر كتاب عن حكايات السياسات السورية العاصفة والغامضة، على أجيال سورية متعاقبة. فقد كنت شاهدا على العصر.
كان الأمير عبد الإله بن علي الوصي على العرش العراقي الذي قضى في الانقلاب العسكري الدموي يكابده وَجْدُ الجلوس المستحيل على عرش سوريا. من هنا، كان الفرع العراقي للأسرة الهاشمية أكثر انفتاحا على اليمين السوري، من فرعها المالك في الأردن.
ظلت علاقة المصلحة والسياسة مستمرة بين سوريا والعراق الجمهوري. لكن رمال الصحراء بددت الفائدة من القمة السرية التي عقدت في بادية الشام، بين رئيس جمهورية الانفصال الدكتور ناظم القدسي، وحاكم العراق العسكري عبد الكريم قاسم، للتنسيق ضد عبد الناصر الذي دمر «الهيكل» على رأسه ورؤوس ساسة سوريا في الستينات.
ولعل عبد الناصر أخطأ عندما رفض المصالحة مع «البعث القومي» العراقي والسوري. وتحالف مع البعث العلوي الطائفي (صلاح جديد وحافظ الأسد) الذي ورطه في حرب «النكسة» مع إسرائيل، فيما كانت نخبة قواته تقاتل على بعد ثلاثة آلاف كيلو متر في اليمن.
الانقلابات العسكرية والتقلبات السياسية العاصفة، لم تقض على الهوى السوري بالعراق. فقد لجأ إلى عراق صدام جناح البعث القومي بقيادة ميشال عفلق، بعد ما أسقطه البعث الطائفي (1966). وأساء صدام إلى عفلق بأسلمته المزعومة له. وتمرير جثمانه من مسجد في الطريق إلى الضريح.
ولجأ إلى عراق صدام فريق من قادة الإخوان المسلمين، بعد فشل اعتصامهم في حماه. ثم عادوا فلجأوا إلى الأردن، ثم إلى لندن، فيما كان إخوان الأردن يتوسطون لمصالحتهم مع نظام الأسد. وجمد الإخوان السوريون معارضتهم له. وبايعوا سياسة المقاومة والممانعة التي «اخترعها» الأسد الابن، للتغطية على تبعيته لإيران.
في مكره السياسي، عرض الأسد الأب على صدام مشروع وحدة حزبية بين البلدين (1979)، قبل أن يتحالف مع إيران الخميني في الحرب ضد العراق. وفي سذاجته السياسية، رفض صدام المشروع. وأعدم قادة حزبه الذين رحبوا بالعرض السوري. وأرسل رئيسه أحمد حسن البكر «للتقاعد» في حديقة بيته، فمات غما فيها.
وبعد، ماذا بقي لي شخصيا وأنا أخرج من هذا العرض السريع لفيلم الذكريات؟ كان قلبي على اليسار. وكان قلب رشدي الكيخيا زعيم حزب الشعب على اليمين. أمانتي مع نفسي ومهنتي تفرض علي القول إني لم أعرف، في حياتي الصحافية الطويلة، زعيما سياسيا بنزاهة الكيخيا. وكبريائه. ونبل ديمقراطيته.
رفض رشدي الكيخيا المناصب. غادر رئاسة مجلس النواب. بل رفض منصب رئيس الجمهورية عندما أجمع الإلحاح السياسي على ترشيحه. فقدم التزامه بالديمقراطية على هواه السياسي المتكتم بليلى العراقية: «اليد التي وقعت ميثاق الوحدة (مع مصر) تأبى أن توقع مراسيم الانفصال».
للأسف. بات رشدي الكيخيا نسيا منسيا. لم يعرف هواة السياسة اليوم هذا الأنموذج المثالي من الساسة. بإلغاء الأسد الأب والابن الحرية. والديمقراطية. والسياسة. والتاريخ، مات رشدي الكيخيا في منفاه القبرصي فقيرا. متزهدا (1988)، على الرغم من أملاكه الواسعة في تركيا التي لم يستفد منها.