غسان الإمام
«إننا نقول لهذه الأحزاب التي نعتقد بكفرها، إن الساعة التي تختارونها، لتكون ساعة وجودكم، ستكون ساعة دفنكم. ودفعكم إلى المقابر...». هذا الكلام ليس لأسامة بن لادن. أو لنائبه أيمن الظواهري... هذا الكلام الخطير لحسن نصر الله قبل أن يصبح أمينا عاما لحزب الله (1992)، مخاطبا الأحزاب السياسية اللبنانية.
حسن نصر الله من جيل جديد من رجال الدين المتسيسين، عند السنة والشيعة. جيل نَبَتَ غالبه في الفقر المدقع. ووجد في الإسلام «الجهادي والتكفيري» رسالته التي يوجهها إلى العالم!
ما أحلى لبنان! هناك دولتان. جمهورية الطوائف. ودولة الطائفة. طوائف تحلم بالديمقراطية والأمن والسلم. ودولة الطائفة تحلم بفرض عنف الدولة الدينية على بلد فيه 17 دينا. وطائفة. ومذهبا!. مَلَّ حسن نصر الله الفقر. فلاذ بالدين. سافر من «الكرنتينا» أفقر أحياء بيروت، إلى حلقات الدراسة حول الأضرحة المقدسة في الطرق. تتلمذ على الخميني وبطانته. تعلم كيف يجعل من الدين لهبا طائفيا يحرق ويحترق.
تصالح صدام مع الشاه. فطارد الخميني اللاجئ إلى النجف وكربلاء. عاد حسن نصر الله مع زميليه صبحي الطفيلي. وعباس الموسوي إلى بيت الطائفة في لبنان. استجابوا لنداء «الفقيه» الذي أقام دولة دينية في إيران. فأسسوا حزبا له في لبنان، بعد انسحابهم من تنظيم «أمل» الطائفي الذي أسسه موسى الصدر. ثم سيطر عليه المحامي والبعثي السابق نبيه بري، بدعم من الأسد الأب والابن.
حسن نصر الله تميز عن رفاقه بالمواهب: كفاءة في الإدارة. تكتم في الحركة. انضباط في التنظيم. يعمل أكثر مما ينام. يختفي. يختبئ أكثر مما يطفو. ويظهر. يأكل بقدر ما يتكلم. يتضخم. فبات يملأ الشاشة بالسواد، وكأنه من شبيحة بشار الذين يَتَّشِحُون بالأسود.
أحيا نصر الله فن الخطابة الذي اندثر، كسلاح سياسي، منذ غياب الخطيب المُفَوَّه الشيخ بشارة الخوري أول رئيس للبنان الاستقلال. خلافا للصدر ومحمد حسين فضل الله اللذين خالطت عربيتهما لكنة عراقية فارسية، يخطب نصر الله بالعربية الفصحى متميزا على سائر الساسة اللبنانيين المعاصرين. ويمزجها فجأة بالعامية اللبنانية. فيُلهب خطابه الشعبوي عواطف القطعان البشرية الماثلة أمامه.
هؤلاء البسطاء الطيبون من أبناء الطائفة تفوت عليهم تناقضات «السيد». يهمس في آذانهم: حرب 2006 مع إسرائيل نصر إلهي. فيرفعون أيديهم له بالدعاء. والشكر للسماء. يعود متناقضا: «لو علمت أن عملية الأسرى (الحرب مع إسرائيل) كانت ستؤدي إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعا». فيتذكر السامعون 1200 شيعي قتلوا في الحرب المذكورة. يتهامسون: «ليته فعل». ثم يتذكرون قتلاهم في حرب «حزب الله» وأمل. يتنهدون. لا صوت يَندُّ عنهم. فالصمت سياسة منذ تأسيس الحزب، قبل ثلاثين سنة، فيما تتمتع الطوائف الأخرى بحرية تامة في التعبير والتفكير.
لا أميل إلى الحديث في فقه المذاهب. فهو مثير للشقاق في بلد كلبنان. أو سوريا. أكتفي بالقول إن الدهاء وفن المناورة عند «السيد» حسن ضَمِنَا له الإطاحة بزميله الأكثر تزمتا صبحي الطفيلي الذي أصبح أول أمين عام للحزب (1989).
بل تمكن «السيد» من إقصاء العلامة محمد حسين فضل الله الذي كان صديقا مُقَرَّبا من نائب الفقيه الأسبق حسين علي منتظري الذي أقصاه الخميني وعزله. وأجلس نصيره علي خامنئي (كانت رتبته «مجتهد») محله. ولفضل الله قصة تستحق أن تروى يوما ما. ألخصها هنا بالقول إنه ولد في النجف. ودرس هناك. وعاد إلى لبنان. وكان مسايرا لمنتظري في عدم تسييس الدين ورجاله. ومع أن فضل الله محسوب على الجيل الجديد من رجال الدين، فقد كان متواضعا حلو المعشر.
لعل فضل الله (يحمل رتبة «آية الله») كان راغبا في تولي زعامة حزب الله. وتعرض بسبب ذلك إلى «غارة» أميركية قتلت ثمانين من أنصاره وجرحت مائتين آخرين. واعترف الأميركيون (مصادر إدارة ريغان) بأن الـCIA عهدت إلى المخابرات العسكرية اللبنانية في ثمانينات الحرب الأهلية بـ«تصريف» فضل الله «المهيمن» في ظنها على الحزب.
لكن العناصر «الفالتة» في الفوضى المخابراتية اللبنانية آنذاك ضاعفت من كمية المتفجرات. نجا فضل الله. فابتعد «روحيا» عن الحزب. وتركه لحسن نصر الله «رجل قم وطهران» المؤمن المدافع عن ولاية الفقيه، في ذروة صدام الراحل فضل الله مع «آيات» إيران.
قلت في الثلاثاء الماضي إن التسعينات شهدت ذروة الهيمنة السورية على لبنان. فقد أجبر الأسد الأب «حزب الله» على إنهاء حرب الرهائن، وإطلاق سراح كل ما لديه من الرهائن الأميركية والغربية. وعندما رفض الحزب التخلي عن سلاحه، أسوة بسائر الميليشيات، وتم اغتيال نزال الحلبي زعيم «تنظيم الأحباش» القريب من النظام السوري، قتلت القوات السورية 23 من «حزب الله». وهُرعت إيران للتوسط له في دمشق. وبالفعل، احتفظ بسلاحه.
نعم، كسب الحزب شعبية في الشارع العربي مع نجاح مقاومته لإسرائيل التي سحبت قواتها من لبنان (2000). لكن إجبار مجلس الأمن الأسد الابن على الانسحاب من لبنان (2005) أطلق يد إيران في استخدام الحزب، بشكل سيئ. فأسقط حكومتي فؤاد السنيورة وسعد الحريري، ليهيمن على حكومة نجيب ميقاتي. وها هو اليوم يعرقل مع حلفائه وحلفاء بشار تشكيل حكومة جديدة برئاسة المكلف تمام سلام.
توريط إيران الحزب في الحرب السورية إلى جانب بشار، أفقده شعبيته العربية. وكشف تماما أمام العرب والعالم، كأداة إيرانية. وصعد بالتوتر في لبنان مع السنة المتعاطفين مع السوريين. بل مع الرئيس ميشال سليمان. وهو أول رئيس لبناني يقدم نفسه رئيسا للبنان. وليس لطائفة. صارح سليمان الحزب بأن «مقاومته» باتت عبئا على سيادة لبنان ومصلحته. وعندما دعاه إلى الخروج من سوريا، خرج «السيد» من مخبئه، ليعيد حكاية المقاومة التي تريد تحرير فلسطين.
حكا السيد فبدا ضعيفا في منطقه. فمقاومته مشغولة بحربها في سوريا. وليس في الجولان أو فلسطين. وتصاعد التوتر إلى حد القصف المحمول لقواعد الجيش اللبناني والقصر الجمهوري بالصواريخ. أزمة الحزب مع الدولة دفعت الرئيس اللبناني فورا إلى الذهاب إلى طهران، شاكيا الحزب هناك. الزيارة الخاطفة تعتبر اختبارا للرئيس الجديد حسن روحاني، وما إذا كان قادرا على ممارسة سياسة «التهدئة» مع العرب.
المفاجأة الحقيقية لحزب الله كانت موقف تيار «المستقبل». فقد تضامن رئيسه سعد الحريري بحزم مع موقف رئيس الجمهورية، في خطاب جامع. قوي. وواضح: السنة مع الدولة. مع الجيش حتى ولو أخطأ الجيش مع السنة. وتحدى الحريري «حزب الله» داعيا إياه إلى الجلوس إلى مائدة الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس سليمان.
في الحديث عن لبنان، سبق لي أن قلت مرارا إن السنة لم تتورط في الحرب الأهلية في لبنان. لأنها لا تملك سوى الرهان على الدولة. والديمقراطية. وكم كنت أتمنى لو أن الرئيس سليمان، في نقده الحازم لحزب الله (من دون أن يسميه) ركز دفاعه عن ديمقراطية لبنان. وكرامة نظامه وسيادته، بدلا من الدفاع الطويل عن الجيش.
أما المفاجأة الكبيرة لي، كمستمع ومشاهد، فهي سعد الحريري نفسه. فقد أحرج «حزب الله» بإعلان استعداد تيار «المستقبل» عدم المشاركة في الحكومة الجديدة، إذا فرضت الظروف الصعبة الأخذ برأي الرئيس سليمان بضرورة تشكيل حكومة حيادية تعتمد الكفاءة ولا يشارك فيها الساسة.
ألقى هذا الشاب الجديد نسبيا على السياسة خطابا مكتوبا بالفصحى. وبنبرة واضحة. وصوت صريح. عالٍ. كم أتمنى على العماد ميشال عون أن يجالس حليفه حسن نصر الله. لعله يتعلم النطق بالفصحى. فلا تتكسر عاميته. كان لبنان وطن الفصاحة. وأولهم فيها آباء ورهبان مسيحيون وموارنة .
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط