أقلب كتب مكتبتي المتواضعة. فأشعر أني أضعت العمر في ثقافات عصر مضى. عصر التنوير. والحداثة. وآيديولوجيا الحرب السياسية الباردة. أبحث عما يرضي النفس. ويلهم العقل، في فكر «ما بعد الحداثة»، فلا أجد أن العصر الجديد قد استوفى التأمل. والدراسة. واستخلاص العبر. وأنجب مؤلفات في عمق وشمولية في تأملي لمسيرة التاريخ، يهمني ما أنجب كل عصر لخدمة الحضارة. والثقافة. والعلم. ولأنسنة النفس مؤلفات العصر الذي مضى.
البشرية. وانتزاع نزعات الشر والأنانية الكامنة فيها، للارتقاء الجماعي بالإنسان. فلا تبقى المساواة.
والرفاهية. والمعرفة، حكًرا على مجتمعات وشرائح متقدمة، فيما تبقى الأغلبية السكانية راسفًة في معتقل الجهل، والتضليل المعرفي والإعلامي.
وأعترف بأن الإقامة الطويلة في منفاي الأوروبي، ساعدتني على الانتقال بإيماني القومي العربي، إلى أفق إنساني أوسع. بمعنى أني ما أردت لأمتي العربية الممزقة يصلح لما أريد للإنسانية، من سلم. ومساواة. ورفاهية. من هنا، صراحتي في رفض. وكشف أولئك الذين يتبرقعون بالقيم المثالية، للتغطية على أهدافهم الحقيقية، في تمزيق المجتمعات الإنسانية.
وأقدم مثالاً واحًدا على دموع التماسيح، في البكائيات الإيرانية على شيعة البحرين. فهي تذكرني ببكائيات مماثلة على شيعة لبنان. فقد استغل الحزب الإيراني (حزب الله) الحرية والديمقراطية في لبنان، لتمزيق وحدته. وضرب عروبته. بل ها هو شعار مقاومة وممانعة المشروع الصهيوني الإسرائيلي، ينطوي ليرتفع عملًيا وواقعًيا الشعار الطائفي، لسلب عقل طائفة عربية. وتسخيرها لخدمة حرب إيران في سوريا.
ماذا حدث في عصر «ما بعد الحداثة»؟ بات العالم في فوضاه الهائلة أشد خطًرا. هناك سبعة آلاف رأس نووي، في حاويات كل من أميركا وروسيا. لكن نظرية الردع النووي التي ضمنت للعالم «استحالة» نشوب حرب نووية، تراجعت. فغدت هناك «إمكانية» لنشوب حرب نووية. كيماوية. جرثومية، بسهولة أكثر مما مضى.
السبب تعدد الأصابع المتوترة الممسكة بالزناد النووي. وصعوبة التسوية السلمية للمشكلات العالمية. 7 وتراخي الرقابة الدولية على دول نووية صغيرة كإسرائيل. وترشيح دول أخرى، كإيران. واليابان. وألمانيا.
وإندونيسيا. والبرازيل. والأرجنتين... لدخول النادي النووي، في غضون السنوات العشر المقبلة.
في هذه الفوضى العالمية الصارخة، أصبحت الليبرالية الحاكمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة في موقف الدفاع عن النفس. وعن قيمها الأثيرة لديها. كالديمقراطية. وحقوق الإنسان. والاتحاد الأوروبي.
وإنهاء الحروب، في حين تعتبر الأحزاب الشعبوية المتطرفة موجات نزوح العمالة الأوروبية الشرقية.
والغجر. والهجرات العربية. والآسيوية. والأفريقية، بمثابة أحصنة طروادة تهدد تقاليدها. وثقافاتها. وهوياتها القومية.
وبرزت من ضباب المسرح السياسي شخصيات وزعامات أكثر غموًضا. وإبهاًما. وطموًحا. وأشد جرأة في التلميح. والتصريح. والعداء للديمقراطية الليبرالية. والاستعداد للتورط. والتدخل العسكري الخارجي. كما فعل الرئيس الروسي في سوريا. وأوكرانيا. وصولاً إلى دونالد ترامب المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الذي دعا ناخبيه وأنصاره، إلى استخدام العنف المسلح، لمنع هيلاري كلينتون من دخول البيت الأبيض، إذا ما انتخبت رئيسة!
في محاولة «الإسلام الانتحاري» و«الداعشي» وْضع العالمين العربي والإسلامي في صراع مباشر. خاسر، مع الغرب المتفوق تقنًيا. وعسكرًيا، تتحقق نظرية «المستشرقين» اليهوديين برنارد لويس. وصموئيل هنتنغتون، عن «صراع الثقافات والحضارات» المحتم بين الإسلام والغرب.
الحل الأخير عند ديك تشيني الذي كان نائًبا للرئيس بوش الأصغر، هو في قيام الغرب بغزو عسكري شامل وساحق، للعالمين العربي والإسلامي، للقضاء على الإسلام «الداعشي»! وثقافة العداء والتكفير للغرب. من بل يرفض الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند اتخاذ أية إجراءات جماعية قمعية ضد مسلمي فرنسا. ويرفض حسن الحظ أن نظريات «الحل الأخير» غير مقبولة لدى الليبرالية الديمقراطية الحاكمة في أوروبا الغربية. البابا فرنسيس احتمال قيام الكاثوليك برد فعل انتقامي، لذبح الكاهن الكاثوليكي الفرنسي.
لكن ماذا حدث للعالمين العربي والإسلامي في عصر فوضى «ما بعد الحداثة»؟ كنت قد تحدثت في موضوع سابق، عما حدث للعرب والمسلمين من ظلم عنصري واستعماري، في عصر الحداثة والتنوير. غير أن الظلم الذي تعرضوا له في المرحلة الأخيرة من ذلك العصر، مرحلة الحرب الباردة (1989 1945)، كان من صنعهم الذاتي. ومن صنع أميركا. فبعد فشل المشروع القومي (1970)، بادر النظام العربي إلى تشجيع المشروع الديني (الإخواني)، والمشروع الديني المتزمت وليد الرحم الإخواني. ولقي الرئيس السادات جزاء انفتاحه المتحمس على المشروعين.
غير أن أميركا كارتر وريغان أخرجت الشيخ الضرير عمر عبد الرحمن، من سجن الرئيس مبارك. ونّصبته مفتًيا للمشروع المتزمت. وسوقت أنصاره المتحمسين لقتال الروس الحمر في أفغانستان. وهكذا، ظن «الإسلام الأفغاني» أنه هو المنتصر في تلك الحرب. فلما تخلت أميركا عنه، في مطلع عصر ما بعد الحداثة (1989)،
شن حرًبا انتقامية على النظام العربي وأميركا. لكن النظام العربي تمكن من كسر شوكة هذه النسخة المبكرة الموجة الثانية من «الإسلام المتزمت» (القاعدة)، تمكنت من ارتكاب مجزرة نيويورك (2001). فرّد الرئيس من التزمت. بوش الأصغر، بشن حرب على «طالبان» في أفغانستان. وهدم الجناح الشرقي للأمة العربية (العراق). وتسليمه إلى عملاء إيران.