غسان الإمام
أدخل «النمر» الفرنسي جورج كليمنصو دمشق، بقلمه الأحمر، في خريطة «لبنان الكبير» الذي اعتزمت فرنسا إنشاءه بعد الحرب العالمية الأولى. فأثار فزع بطريرك الموارنة يوسف الحويك والسياسي اللبناني إميل إده الزائرين له. وقالا: «دمشق مدينة إسلام ومسلمين. ولا يمكن قبولها في لبنان».
كان ريمون إده عميد حزب «الكتلة الوطنية» الماروني ينسى أنه روى لي ما جرى لأبيه وللبطريرك، فيكرر الحكاية كلها. التقيته في باريس. ولعله كان يعتقد أنه يغيظني، بمعرفته بأني سوري.
أحببت ريمون إده. وتعودت على «قفشاته». فقد كان ظريفا. خفيف الظل. ونفى نفسه من لبنان إلى باريس خلال الحرب الأهلية. فلم يكن يطيق سطوة النظام السوري الذي احتل لبنان ثلاثين سنة.
ولم أكن لأشعر بغضاضة، وأنا ابن دمشق، لو رأيتها داخل خريطة لبنان! فهذا العالم العربي كله هو وطني. ومن «سوء الحظ» أن الجنرال غورو عندما احتل سوريا ولبنان، اكتفى بسلخ سهل البقاع ومدن السنَّة الساحلية (بيروت. صيدا. طرابلس) من سوريا الطبيعية (الشام). وضمها إلى لبنان الصغير «لتكبيره». فقد كان لبنان مقصورا، إداريا، على الجبال العالية، في معظم العهد العثماني.
لست مؤرخا. إنما أستعين بالتاريخ، ليس لأنه بات في صميم فن الرواية الصحافية (المقالة/ الريبورتاج). لكن أيضا لتعريف العرب، بمن فيهم السوريون، بما طمسته معظم الأنظمة (الاستقلالية)، من تاريخهم السياسي الحديث.
أمة بلا ذاكرة سياسية، هي شعوب هائمة. طائشة. ومجتمعات ممزقة. هناك اليوم تنظيمات وأحزاب دينية تسعى لاستعادة نير الخلافة العثمانية، فتُسقط هويتها العربية! وهناك تنظيمات «جهادية» تتجاهل. أو تحارب العروبة، لأنها مضادة لتزمتها الديني.
وهكذا، لن أتحدث عن تاريخ سوريا الحديث. فهو موضوع يطول. إنما سأتوقف عند محطات، في هذا التاريخ، تتعلق فقط بالتقسيم والعلاقة بين الطوائف. وفي التمهيد، أصارح الأنظمة (الاستقلالية) المتعاقبة، بما فيها النظام العلوي، بأن الجيل السوري الأول الذي ناضل لتحرير سوريا من الاستعمارين العثماني والأوروبي، كان أفضل. وأنبل. وأكثر نزاهة. ووعيا بالعروبة. والديمقراطية. والوحدة الوطنية والقومية. والتسامح الديني. ورفضه للتقسيم وللطائفية، من الجيل «الاستقلالي» الذي أنتمي إليه أنا أيضا، كمواطن عادي.
ودليلي على ما أقول شواهد تاريخية كثيرة: في «طبائع الاستبداد»، وقبل رحيله المبكر (1902)، أكد عبد الرحمن الكواكبي على ضرورة الالتزام بالعروبة. ثم جاء المؤتمران السوريان الرائدان (باريس 1913/ وجنيف 1921) للتأكيد على تمسك السوريين، مسيحيين ومسلمين، بالوحدة الوطنية، والتركيز على العروبة التي ساهم مسيحيو لبنان في إحياء لغتها وثقافتها، منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وجاء الرد بإقدام الحاكم العثماني أحمد جمال باشا على إعدام نخب وطنية سورية ولبنانية من المناضلين القوميين المسلمين والمسيحيين، بمن فيهم رئيس المؤتمر السوري الأول الشيخ عبد الحميد الزهراوي (أعدم بلا محاكمة). وكانت جريمته إنشاء كلية للتربية القومية في بيروت، وليس للتزمت الديني. وكان في مقدمة المشاركين في المؤتمر الثاني، الأمير الدرزي شكيب أرسلان (جد وليد جنبلاط لأمه التي رحلت منذ أسابيع قليلة). وكان المفكر والمثقف أرسلان تجاوز طائفيته، ليدعو من منفاه الاختياري في جنيف، إلى العودة إلى الإسلام العثماني. ثم ندم والتزم بعروبة قومية صافية.
في إعلان قيام المملكة العربية السورية في دمشق (1918)، حرص الملك الهاشمي فيصل على تفادي الحساسية الدينية. فسعى إلى تشكيل جمعية تأسيسية من زعامات مسيحية وإسلامية في سوريا ولبنان، لوضع دستور ديمقراطي. وكان القبول المسيحي طيبا وواسعا، بهذه الدولة العربية المستقلة. وعين فيصل المسيحي حبيب باشا السعد حاكما على لبنان.
قال فيصل في بيانه التأسيسي إن دولته تقوم على عدم التفريق «في الحقوق بين المسلم والمسيحي والموسوي». ثم أكد هويتها القومية: «فهي تستهدف إعلاء شأن العرب، وتأسيس مركز سياسي لهم بين الأمم الراقية».
غير أن انسحاب فيصل من سوريا بعد إنذار الجنرال غورو له كان سريعا. ومخيبا لآمال السوريين. وتلقف الإنجليز فيصلا في الأردن، ليرسموه ملكا على العراق (1921). فكان عهده إلى وفاته (1933) أفضل عهود العراق الحديث، في تهدئة الصراعات السياسية. والدينية. والعرقية.
دخل الجنرال غورو دمشق. أعلن فورا قيام «لبنان الكبير». قسَّم ما تبقى من سوريا دويلات طائفية (حلب. دمشق. حمص وحماه. جبل الدروز. مع منطقة حكم ذاتي لجبال العلويين ما لبثت أن تحولت أيضا إلى دويلة/ 1924). كان نفي الاستشراق الأوروبي للعرب كأمة بالغ التأثير على اتفاق سايكس – بيكو (1916) لتقسيم سوريا بين إنجلترا وفرنسا. وعلى المجلس الأعلى للحرب. وعلى عصبة الأمم لتقسيم سوريا، على أساس طائفي.
سقطت هذه الرؤية التقسيمية الاستشراقية، بانفجار الثورات في سوريا ضد الانتداب. كاد الثوار الحوارنة يفتكون بالجنرال غورو الذي شل الرصاص يده. فألقى حقي العظم رئيس دويلة دمشق بنفسه على الجنرال، فأنقذه من موت محتم. لكن الثوار قتلوا رئيس الحكومة علاء الدروبي ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف.
قاد (الكردي) إبراهيم هنانو. و(العلوي) صالح العلي ثورتين متحالفتين تحت مظلة العروبة. وفي غوطة دمشق التي سوَّى نظام بشار مدنها الصغيرة اليوم بالأرض. ودفن الألوف من شبابها في التربة التي روَّاها آباؤهم وأجدادهم الثوار بدمائهم، في هذه الغابة، قاد الطبيب عبد الرحمن الشهبندر أكثر تلك الثورات التهابا واتساعا (1925/ 1927).
تحدثت كثيرا إلى قراء «الشرق الأوسط» عن هذا الطبيب السياسي. والثائر. والمثقف. وأقول اليوم إن الشهبندر كان واعيا الحساسية الطائفية. فكان هو الذي نادى بالأمير الدرزي سلطان الأطرش قائدا وزعيما للثورة السورية. وكان الأطرش زحف بجرأة إلى دمشق، لنجدة ثورة الشهبندر، مخترقا خطوط القوات الانتدابية. ومنزلا بها خسائر فادحة.
في لقاءاتي مع السياسي المصري المخضرم فتحي رضوان، كان يبدو معجبا بالشهبندر القومي العربي الذي انسحب إلى مصر، بعد القضاء على ثورته. وملاحقته بحكم إعدام. لم يكن رضوان عروبيا حتى بعد توزير عبد الناصر له. لكنه يقول لي إن الشهبندر كان أخطب من سعد زغلول. وأوسع ثقافة منه. كان الشهبندر محاضرا أيضا، في أندية مصر الثقافية، عن العروبة. والديمقراطية. وعن الفكر السياسي الحديث، محذرا شبيبة مصر من الطائفية التقسيمية. ومن المشروع الصهيوني في فلسطين.
وأضيف من عندي أن الدكتور الشهبندر، لو عاش، لاسترد جيل الأربعينات والخمسينات من بعث عفلق. ولما سمح بشعبيته الواسعة لضباط الطوائف الذين تربوا في جيش الانتداب، بقيادة الانقلابات الكلاسيكية الثلاثة (1949/ 1951) التي دمرت الديمقراطية السورية الاستقلالية.
لكن حكومة فيشي الفاشية التي حكمت سوريا بعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، سمحت للإسلام المتزمت بتكفير الشهبندر. واغتياله (1940) وهو في ثوبه الأبيض بعيادته الطبية. وإلحاق التهمة بزعماء «الكتلة الوطنية»، كجميل مردم وسعد الله الجابري اللذين برأتهما نصاعة ضمير القضاء الفرنسي واستقلاليته.
بعد لجوء الشهبندر إلى مصر، أدارت «الكتلة الوطنية»، معركة النضال من أجل الاستقلال بكفاءة كبيرة. الفضل في ذلك للداهية جميل مردم. بين الثورات الدموية. والاحتجاجات الشعبية. والمساومات السياسية، توصل مردم مع اليسار الفرنسي الاشتراكي/ الشيوعي الحاكم إلى معاهدة استقلالية (1936). عودة اليمين الفرنسي إلى الحكم. وإصراره على الاحتفاظ بقواعد عسكرية. ومصالح سياسية. في سوريا ولبنان. كل ذلك أدى إلى تصدع «الكتلة الوطنية». تصاعَدَ الخلاف السياسي بعودة الشهبندر من مصر (1938). ومطالبته بإلغاء المعاهدة. واستبدالها باستقلال تام فورا.
السياسي المحترف يعرف متى يعتزل. اعتزل جميل مردم المسؤولية والسياسة (1948)، متحسسا في الوقت المناسب هبوب الرياح المعاكسة. غادر إلى مصر ليعيش في هناء وبحبوحة 12 سنة أخرى، تاركا خلفه وزيره السابق شكري القوتلي الذي غدا رئيسا للجمهورية محاصرا، في بساطته السياسية الشديدة، بشباب البعث من جهة. وبعسكر الانقلابات الكلاسيكية من جهة أخرى.
بانهيار ديمقراطية القوتلي (1949)، انهارت سريعا الوحدة الوطنية. ثم الوحدة القومية مع مصر. وصول البعث العلوي إلى الحكم، بقيادة صلاح جديد. ثم بقيادة الأسد الأب والابن، أيقظ المارد الطائفي التقسيمي الذي داراه الأب. ولم يعرف الابن كيف يعيده إلى القنينة. فقد أضاع الاستقلال الوطني بالاستسلام لحلفه مع الشيعية الإيرانية.