غسان الإمام
كان الرئيس حسني مبارك يقول: «لو تركناهم (الإخوان) لقتلوا الناس». المثل يقول: «سل مجربا ولا تَسَلْ حكيما». مبارك لم يكن فيلسوفا. لكن يبدو أنه كان واقعيا. ها هم العسكر الذين أتوا بعده «تركوا» الإخوان. فتسلقوا سلّم السلطة. ووصلوا إلى قتل الناس، تحت شعار الاستقرار. والشرعية!
الإخوان، في تاريخهم. معارضتهم. حكمهم. مأساتهم، يختصرون إشكالية الحزب الديني. ليس في مصر وحدها. إنما حيث هناك حزب ديني متسيّس حاكم أو معارض. ناشط فوق الأرض. أو عامل سرا تحتها.
الدين شيء. والسياسة شيء مختلف تماما. السياسة هي المتحرك والمتغير. الدين هو المقدس الثابت. يخفق الدين عندما يصبح حزبا سياسيا. وعندما يغدو دولة دينية (نظام طالبان). أو دولة ثيوقراطية يحكمها رجال الدين، كملالي إيران.
بشيء من التفسير والإيضاح، أقول إن ثوابت الدين أبدية. عندما يتسيّس الحزب الديني يجد نفسه أمام خيارين: إما أن يقبل بما تفرض السياسة من تحولات ومتغيرات، عبر الديمقراطية. والتعددية الحزبية. ومبدأ الفصل بين السلطات، في الدولة الحداثية. وإما أن يلتزم الحزب الديني بثوابت لا تقبل نقاشا. أو تعديلا يجري تأويله سياسيا أو دينيا. وإلا أثار ذلك غضبة المجتمع المؤمن. وهكذا، فالحزب الديني المسيَّس عندما يحاول تديين المجتمع، حسب رؤاه السياسية في الفرض. ووفق سلطته المتزمتة في التدخل بالإكراه والإجبار، يصطدم فورا، بالقوى السياسية اليسارية. والمحافظة. والليبرالية. بل بالشارع. والرأي العام المستقل. والمجتمع. حتى ولو كانت هذه القوى متدينة. فهي ترفض أن يصبح الدين حكرا لحزب يزعم أنه «حزب الله» دون الآخرين. أو حزبا «للإخوان المسلمين» دون سائر المسلمين.
هذه الإشكالية المعقدة واجهت كل القوى السياسية والدينية المتسيِّسة، في الانتفاضات والثورات العربية. بل أقول إن مبدأ «الأسلمة بالتدريج والتقسيط» الذي نهجته عندما صعدت فورا سلّم السلطة في المغرب. تونس. مصر. وإيران، اصطدمت بالقوى الليبرالية. والدينية المستقلة التي صوَّتت لها.
كان مبدأ «الأسلمة بالتدريج» عند إردوغان. والغنوشي. ومرسي ومرشديه غير مقبول. لأنه انطوى على إساءة إلى الدين. وعلى «براغماتية» انتهازية تداهن كل القوى غير الدينية، ريثما يتم إلغاء ثقافة قرنين من المزج بين العصر ومتطلباته، والتراث الثقافي العربي، بما فيه التراث الديني.
كان الغرض السياسي للحزب الديني إقامة دولة دينية آجلا أو عاجلا. تلغي هذا التنوع التراثي، بإلغاء الحرية السياسية التي ادعى الحزب الديني بأنه يؤمن بها. فإذا به يستغل تبعثر القوى الشبابية والليبرالية، «لغزو» صناديق الاقتراع. كان إكراه العسكر على إجراء انتخابات مبكرة خطأ متعمدا، قبل أن تنظم القوى الجديدة أحزابها. وتصوغ مبادئها. لكي تتمكن من خوض معركة سياسية متكافئة مع الحزب الديني.
ضعف القوى (الإخوانية) و(الجهادية) يكمن في أنها لا تقرأ التاريخ. الدين لم يكن كافيا، في الأصل، كأساس وقاعدة لإقامة دولة مدنية أو دينية. أخفقت في ذلك الإمبراطوريتان المسيحية الغربية والإسلامية العربية وغير العربية. فلم تؤمنا الاستقرار. والازدهار. والاستمرار. بل ما لبثت هاتان الإمبراطوريتان أن ساقتا الشعوب المتدينة إلى صدام دموي دام قرونا بينها. وأدى إلى تدمير المشرق العربي الذي اضطر إلى تقديم تفسير ديني ضيق ومتزمت للجهاد. خسرت الدولة السلطانية الإسلامية الحرية السياسية. ونجحت في تحرير الأرض. فَسادَ التخلف والجمود. ثم أفاقت على غزو غربي آخر، يخفي سيف الدين. ليشهر التفوق التقني الصناعي.
كان نضال العرب ضد الاستعمار الحديث قوميا مدعوما بالدين. من دون تسييس للدين ورجال الدين. ومازجا التجربة بالخبرة التقنية السياسية المستفيدة من الابتكار الغربي. نجح النضال الوطني والقومي في التحرر من الاستعمار. لكن لم ينجح في امتلاك الحرية السياسية. ابتذل النظام الجمهوري الديمقراطية. فزيَّف الاقتراع والأرقام باستمرار.
الطريف أن الثورات والانتفاضات العربية والإسلامية لم تأت بالحرية. لم تنجح «الجهادية» السنية في إقامة دولة دينية حتى في أكثر المجتمعات الإسلامية تأخرا (أفغانستان). ولم تنجح «الجهادية» الشيعية في تقديم دولتها الدينية الثيوقراطية، بعد 30 سنة من قيامها، كأنموذج مثالي للمسلمين.
عندما أخفق الحزب الديني (الإخواني) في تجربته السلطانية، أطلق العنان للحزب الديني «الجهادي». إخوان الأردن الذين خُدعوا بالشعار الإيراني/ السوري عن «المقاومة» ثم «الممانعة» يقفون حائرين اليوم، تاركين الساحة السياسية للحزب «الجهادي» الأردني، لخوض الحرب في سوريا، وإقامة دولته الدينية.
ها هو الحزب الشيعي (الجهادي) يتدخل في سوريا للقتال إلى جانب النظام الطائفي، بأمر من إيران. ووصل مأزق التورط إلى مستوى الادعاء بأنه يقتل ويدمر في سوريا باسم الدفاع عن فلسطين!
وها هو الحزب السني «الجهادي/ الإخواني» في مصر وغزة يقاتل مستميتا، للدفاع عن «شرعيته» التي أقامها بسرقة الانتفاضة. فلولُ نظام مرسي ليست بعيدة عن عمليات العنف «الجهادية» ضد النظام الانتقالي الذي أوفى بوعده أول من أمس (الأحد) في إعداد دستور ليبرالي للاستفتاء. فيما نظام حماس (الإخواني/ الجهادي) في غزة، ليس بعيدا عن عنف الحزب الجهادي الذي يهرق دماء أبناء مصر في سيناء.
تعثرت الثورة في سوريا عندما تساهلت مع التنظيمات «الجهادية» الوافدة، والساعية إلى إقامة دولتها الدينية، أكثر مما هي مشغولة بمكافحة الدولة الطائفية. وتعثرت الانتفاضة الشعبية في ليبيا، بعد إزاحة القذافي، لأن التنظيمات «الجهادية» لا تستطيع إقامة دولة دينية متزمتة، ليس في ليبيا وحدها، وإنما أيضا في تونس. والجزائر. واليمن. والعراق. وأفغانستان وباكستان.
الثورات والانتفاضات لا تحدث في فراغ. ولا تستطيع أن تعيش في فراغ. أخفق الحزبان «الجهادي» و«الإخواني» في فرض تسييس وتخريب الدين، وتفسيره تفسيرا آيديولوجيا متزمتا، على المجتمعات العربية والإسلامية التي لم يهتز قط إيمانها الديني العميق.
لكن ما هو البديل لهذا الفراغ السياسي والعقائدي الذي تعيشه المجتمعات العربية، بعد إخفاق مشروع «الدولة الدينية» الذي ما زالت إلى الآن تصر عليه الأحزاب «الإخوانية» و«الجهادية»؟! كيف تكون المؤسسة الأزهرية التعليمية أكثر انفتاحا من طلبتها؟! كيف استطاعت هذه الأحزاب أن تخترق، مثلا، الجامعات المصرية الدينية وغير الدينية. وتفرض هذا المشهد البائس لطلبة «الإخوان»، وهم يقاتلون ويكافحون ضد تحرير عقولهم؟
السبب أن عبد الناصر لم يهتم بتشكيل مؤسسة فكرية قومية. لم يسمح لروّاد الفكر القومي الليبرالي، بتلقين شباب الجامعات المصرية مبادئ عروبة ديمقراطية. فهي البديل الوحيد للسمو بنبل فوق كل التيارات الوطنية الشوفينية أو الدينية التي تمزق الشارع المصري. وتعطل دور مصر العربي في مواجهة الاختراق الإيراني.
من مقعدي الصحافي المتواضع، دعوت الثورة السورية مرارا، إلى العودة إلى العروبة. إلى مواجهة إسلامويةٍ متزمتة ممولة ومسلحة جيدا، بفكر عربي جديد يسمو فوق الطائفية ونظامها الفاسد. لم أسمع صوتا سياسيا أو مسلحا واحدا يدعو إلى العودة إلى العروبة، على أساس ديمقراطية مؤمنة حقا بالمساواة بين الغالبية السنية والأقليات العنصرية والدينية. الحل ليس في جنيف. إنما يجب أن يكون في سوريا حرة. متحررة من نظام يقتل ويدمر، بلا كبرياء ونبل الدولة. ومعارضة بلا هوية. لا تجرؤ على أن تقول لأميركا أوباما إن انحيازها للأحزاب الدينية لا يتفق مع ليبرالية الفكر الغربي.