غسان الإمام
بعضنا يندب الوفاء. يقول إنه اختفى من حياة الناس. لكن جولة متمهلة في أحياء هذه المدينة الجميلة. باريس. تؤكد لك أن الوفاء ما زال على قيد الحياة.
الدنيا عيد. لا تذهب إلى شارع الـ«شانزليزيه» هذا المساء (الثلاثاء)، طمعا في لقاء سياحي عابر، تودع فيه سنة قديمة. وتستقبل سنة جديدة. كان ذلك أيام زمان. لم يعد أجمل شوارع الدنيا يوزع الوفاء والقبلات. فهو الآن يبيع الأحذية الرخيصة!
لم تقصف أميركا روّاد الشانزليزيه الجدد بطائرة «درون» العمياء. فهي تسوقهم وأطفالهم إلى مطاعم الـ«فاست فود» الشعبية. و«بوتيكات» الأحذية والملابس الخفيفة، لتصيد حفنة الـ«يورو» الأخيرة في جيوب الشباب العرب والسود الذين تقذف بهم قطارات المترو والضواحي، للتسكع على أرصفة الشانزليزيه.
كَفّتْ أكواخ الصحف عن بيعها. كوخ الصحافة التقليدي المقابل لفندق ومقهى «فوكيتس» الشهير، يبيع الآن أكياسا نسائية، لا علاقة لها بحقائب «فويتون» الأنيقة التي كانت تحملها نساء باريس. فقد توارَيْنَ مع «بوتيكات» الملابس الأنيقة الغالية إلى شارعي مونتين وفرنسوا برومييه المجاورين.
تجد حذاء للبيع في فترينات الشانزليزيه. ولا تجد مكتبة تعرض كتابا! عمدة باريس الاشتراكي غاضب من هذه الحالة. يحاول مقاومة غزو الثقافة الشعبية الأميركية. ومنع بيع أو تأجير آخر بوتيكات و«مولات» الشانزليزيه، لشركات الحذاء الرياضي. والبنطال الخفيف الفضفاض.
أسكن في ضاحية لصيقة بباريس. قبل ثلاثين سنة، لم يكن فيها سوى مجمعين تجاريين. هي الآن تضم سبعة مجمعات تجارية ضخمة (سوبر ماركت). وسوقا شعبية في الهواء الطلق (مارشيه بوبيولير). وعشرات البوتيكات الكبيرة للملابس النسائية. والعطور. ومواد الماكياج.
البلديات في المدينة. والضواحي. وقرى الريف، هي التي تنظم. وتدير الأسواق الشعبية. أو ما يعرف عندنا في الشرق بسوق الهال. تقام السوق ثلاث مرات في الأسبوع. البلدية تنصب الأكشاك وتُقَوِّضها. وتغسل الأرض. لا أعرف أن سوق الهال القذرة في مدينتي دمشق، غسلتها البلدية مرة واحدة.
المرأة الفرنسية تذهب يوميا إلى السوبر ماركت، بكامل زينتها. أناقتها. عطرها. ولا تجد حرجا في العودة إلى البيت، وفي يدها كيس متوسط الحجم. يضم صبغة الشعر. والعطر. وأحمر الشفاه. والبصل. واللحم. والفواكه. بل بات السوبر ماركت ملتقى لنساء الحي. الحديث يدور حول توافه الحياة اليومية. عن فضائح الحب. الزواج. الطلاق، عند الجيران. ولا شيء عن السياسة أو الثقافة.
لعل المقهى كان السوبر ماركت الأول في حياتنا الاجتماعية. في ستينات وسبعينات باريس، كنت تجد في واجهات مقاهي الضفة اليسرى للسين (ريف غوش)، مثقفي اليسار واليمين، في السياسة. والأدب. والفن، الذين برزوا بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن المقهى الباريسي، نقل المثقفون العرب حُمَّى الحوار السياسي والآيديولوجي إلى مجتمعاتهم. فكان هؤلاء روّاد الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في بلدان المغرب العربي، فيما الدكتور جمال أتاسي العائد، وفي ذراعه زوجة فرنسية أطول منه، قد كَرَّسَ نفسه أبا للاشتراكية في حزب البعث. ثم لاقى مرارة المثقف وخيبته، في سجون تلامذته الذين تحولوا إلى الماركسية التروتسكية. ثم في سجون عسكر التقدمية الزائفة.
كان نابليون يقول عن أعدائه الإنجليز إنهم «أمة من الدكاكين». في المائتي سنة بعده، نقلت الرأسمالية الأنجلو أميركية اقتصاد الدكان الفردي، إلى اقتصاد السوبر ماركت الجماعي. فاجتذبت قطعان الملايين من المستهلكين. وساقتهم كالأغنام، إلى سوق الوفرة السلعية الهائلة.
هنا في السوبر ماركت، وليس في الدكان، بتنا نجد جميعا حاجتنا، بسهولة أينما كنا، من اللحم. البقول. الخضر. الفواكه. المشروبات. المياه. الخبز. نعم، الدكان ما زال يقاوم نمط الاستهلاك الجماعي للوفرة السلعية: بقاليات مهاجري المغرب العربي. اليهود الذين يحتكرون تجارة الملابس الجاهزة التي قضت على إبرة وخيط «الترزية» القدامى. ويتحكمون بالمهن الحرفية الرابحة. كالطب. والصيدلة. والحلاقة. والفن. والدفن. والصحافة. والإعلام. والنشر...
مع ذلك، شطارة الدكان الفردي لا تستطيع منافسة إغراء الاستهلاك الجماعي السهل. طورت الرأسمالية الصناعية وفرة إنتاج السلع. وكان عليها أن توفر السوبر ماركت المناسب لمئات الملايين من المستهلكين الأوفياء.
وهكذا، فنحن نعيش اليوم حضارة السوبر ماركت. حضارة الوفاء ليس للإنسان، إنما لهذا الغول البهيج. الريح الذي يلتهمنا. نقبل بأن نكتوي بغلاء الأسعار، لتغذية الرأسمالية بمزيد من الربح. لكي تفكر. وتعمل. وتبتكر. وتنتج مزيدا من السلع. حتى الاقتصاد الإلكتروني بات له سوبر ماركت يعرض علينا فيه أدوات الصورة المتحركة. والكلمة الناطقة.
من يملك السوبر ماركت؟ إنه المال. المال لا دين له. لا جنسية. لا هوية. في اقتصاد الكازينو (البورصات)، يلتقي المال العابر للقارات. تريليونات يومية من المال المشترك الأميركي. الأوروبي. العربي. اليهودي. الصيني. الياباني... تبحث عن فرص الاستثمار. السلع التي ينتجها هذا المال تعرض للبيع والاستملاك في هذه الأسواق (السوبر ماركت)، على مختلف أنواعها. وأشكالها.
من يدير السوبر ماركت؟ لا تظن أن هؤلاء المشرفين على البائعات والعمال هم الذين يديرون هذا الكائن الأسطوري. إنهم الإداريون التنفيذيون وأعضاء مجالس الإدارة القابعون في الغرف المغلقة. هؤلاء يعرفون كيف يوجهون المال للاستثمار، في السلع المربحة. والمرغوبة. لا يمكن أن تتهمني بالعداء للساميّة، إذا قلت إن معظم هؤلاء الإداريين. والخبراء. والسماسرة، هم من اليهود الذين اكتسبوا خبرة تاريخية في الإدارة الرأسمالية. وفي فهم عقلية المستهلكين الأوفياء. الأحبَّاء لحضارة السوبر ماركت.
لست مصلحا أو ثائرا اجتماعيا ضد هؤلاء. مجرد مراقب سيغادر العالم كما وجده. للطرافة الصارخة، فهؤلاء الإداريون. والسماسرة. وخبراء المصارف والمال. هم أيضا أعداء الرأسمالية. فقد أوقعوها في أزمات مالية مروعة، في هذه السنين القليلة الأولى من الألفية الميلادية الثالثة.
ديمقراطية الرأسمالية حمت هؤلاء من الملاحقة القضائية. حوسبت المصارف الكبرى المتلاعبة، كمؤسسات رسمية لا يمكن إفلاسها. إدارات أوباما. كاميرون. ميركل. أجبرت دافعي الضرائب على تعويم المصارف المفلسة. ونجا السماسرة من العقوبة. نجوا بألوف الملايين التي قبضوها، كمكافآت، من أرباح المصارف. ومن أموال المستثمرين الطامعين في الكسب «الحلال» وغير الحلال، في كازينو السوبر ماركت الغربي. إلا المحتال اليهودي برنارد مادوف الذي فاجأه إفلاس المحتالين الأكبر منه. فلم يعد يستطيع الوفاء لحضارة السوبر ماركت. لم يعد يستطيع تسديد فوائد وأرباح المستثمر القديم، من المال المتَبَخِّر للمستثمر الجديد.
هل أنت سعيد بوفائك الحضاري للسوبر ماركت؟ الرأسمالية، يا سيدي، تستعير أفكار غيرها الفاشلة. وتوفر لها النجاح بكفاءة الإدارة المدهشة. أقام اليهود الأوروبيون المهاجرون، في أوائل القرن الماضي القرى التعاونية (كيبوتز). من الكيبوتز، انبثق اتحاد العمال القوي (هستدروت)، وحزب العمال الذي حكم إسرائيل 29 سنة. ثم جاء مناحم بيغن بالأميركي ملتون فريدمان، أحد آباء الرأسمالية المتوحشة، فهدم الكيبوتز. وساق اليهود إلى السوبر ماركت.
صَدَّرَ ستالين المزارعين المالكين للأرض الزراعية إلى السوبر ماركت السيبيري. وأقام على أرضهم الجمعية التعاونية (كولخوز). فتكفل موظفو الماركسية الكسالى بإحباط التجربة بسوء الإدارة. طورت الرأسمالية الذكية فكرة الكيبوتز والكولخوز. ساقت المستهلكين من فندق الحرب العالمية إلى السوبر ماركت. فازدادت الأرباح. طورت الرأسمالية الآلة بالأرباح. فحلّت الآلة محل العمال والشباب المتلهفين للعمل.
رق قلب الديمقراطية للمستهلكين المتعطلين. فمنحتهم حدا أدنى من التعويض، لإبقائهم بلا عمل. تهافتوا على سوبر ماركت نيروبي الذي منحهم بطاقة خصم، وفاء لحضارة السوبر ماركت. استفادوا من الخصم في السعر. فذبحهم «الجهاديون» الذين لا يفرِّقون بين «الكفار» العاملين والمتعطلين. ونجا اليهود المالكون للسوبر ماركت. فقد أداروه بالريموت كونترول، من بعيد.
الدنيا عيد. كل عام وأنت. وأنا. بخير في هذا السوبر ماركت.