سوريا بلدي. لكنها ليست وطني. فهذا العالم العربي الكبير هو وطني. ويظل الوطن الأكبر لي في همومه. وآلامه. فلم تفصلني عنه غربة في منفاي الباريسي عمرها أربعون سنة. وباتت فرنسا وطني الثاني الذي أحب. يكفي أنها منحتني الحرية لأكتب ما أريد.
الموضوعات. والأفكار. والأحداث التي أختار لا تفرضها علَّي تقسيمات الجغرافيا العربية. وإنما غالًبا الحدث الذي يؤثر. ويزلزل السياسات العربية والدولية. وتشاء مصادفات السياسة أن تكون سوريا، في الأسابيع الأخيرة، وطن المتغيرات التي تهدد حاضر عروبة الوطن الأكبر. ومستقبله.
وعودتني «الشرق الأوسط» أن تمنحني حرية اختيار الحدث والموضوع. وسأظل على هذا الوفاق معها إلى أن تغِّيبني حتمية عجز العمر. أو عجز الذاكرة والذهن. أو رغبة الصحيفة في الاستغناء عن كاتب. أو الاحتفاظ به.
بعد احتلالها بلدة «منبج»، أعلنت ميليشيا «الاتحاد الديمقراطي الكردي» أنها ستعبر الفرات. وتحتل بلدة «جرابلس». وتواصل الزحف على طول الحدود، وصولاً إلى بلدة عفرين، لإغلاق كامل الحدود السورية التركية البالغ طولها 800 كيلومتر.
كان الجواب التركي سريًعا. فقد عبرت الدبابات التركية الحدود. واحتلت جرابلس. وسلمتها إلى تنظيمات المعارضة السورية المقاتلة. وبذلك، أحبطت مبدئًيا المشروع الكردي لفصل تركيا عن العالم العربي. وتقسيم سوريا. واحتلال أراضيها الشمالية، وإقامة كيان شبيه بكردستان العراق.
لكن احتلال جرابلس ليس كافًيا. فلضمان أمن تركيا الحدودي، لا بد من تثبيت أقدام المعارضات السورية المسلحة في مدينة حلب. وتطهير سوريا الشمالية من تنظيم «داعش» والميليشيات الكردية التي تحظى بدعم أميركي بري وجوي.
الحروب في شمال سوريا تجري تحت شعار «الحرب على الإرهاب». لكن لكل جانب متورط غرًضا غامًضا غير معلن عنه. مع ذلك، يستطيع خبراء السياسة بسهولة معرفة الظاهر والباطن. فقد بات واضًحا أن أميركا أوباما تراهن، في سوريا والعراق، على الأكراد، في ما يعرف بـ«حروب الواسطة أو المرتزقة». غير أن تركيا
بمناورتها العسكرية السريعة، وربما باتفاق مع روسيا. وإيران. وبعض العرب، أجبرت أميركا المحرجة على مطالبة الميليشيات الكردية بالانسحاب تماًما من غرب الفرات.
لم يعد سًرا أن ميليشيا «الاتحاد الديمقراطي الكردي» التي تعتبر الذراع المسلحة السورية لحزب العمال الكردي في تركيا، تسيطر الآن على شمال شرقي سوريا، امتداًدا من الحسكة والقامشلي شرًقا وصولاً إلى نهر الفرات. وترافقها قوات برية ومخابراتية أميركية وأوروبية. وتمكنت هذه الميليشيا في غضون الأسابيع الأخيرة، من اختصار الوجود العسكري والإداري للنظام السوري في محافظة الحسكة، بإشراف الأميركيين.
والروس الذين فرضوا هدنة مشينة على حليفهم النظام السوري في المنطقة.
إزاء هذه التطورات المتسارعة، علق بان كي مون مساعي الأمم المتحدة لاستئناف المفاوضات السورية.ولإدخال سلع الإغاثة إلى الجوعى السوريين المحاصرين. باستثناء بلدة داريا المهمة استراتيجًيا في موقعها، في جنوب غربي دمشق. حيث استسلمت التنظيمات الدينية المسلحة – التي لم تقاتل – وانسحبت مع المدنيين، في اتفاق مباشر مع نظام دمشق.
الاتصالات والمحادثات الأولية بين الوزيرين جون كيري. وسيرغي لافروف لم تسفر، بعد، عن جديد، باستثناء الاتفاق على وقف إطلاق نار مهزوز. وتجاهل التدخل التركي يشير إلى معرفة أميركا وروسيا به. فقد أبلغت تركيا أميركا. وروسيا. والسعودية. وإيران به سلًفا. الغريب أن ألمانيا واصلت تقديم السلاح المتوسط والثقيل إلى أكراد العراق وسوريا، متجاهلة النزاع التركي الكردي.
أثارت الهزيمة التي ألحقها الروس والأميركيون أيًضا بالنظام السوري في الحسكة، ثائرة حليفه إيران. فعادت إلى التحرش بالأسطول الأميركي في مدخل الخليج (مضيق هرمز)، والتهديد بمنع الروس من استخدام قاعدة همدان الإيرانية، لقصف «دواعش» سوريا والتنظيمات المعارضة.
تعلن إيران تأييدها للنظام السوري في «مسعاه» لاستعادة وحدة الأراضي السورية. لكن عملية الإبادة والتهجير التي استهدفت جعل الأغلبية السنية السورية أقلية في بلدها، كانت ممهدة لعملية إنزال سكاني (ديموغرافي) شيعي تهدف إيران منه إلى «ملء الفراغ» السني في سوريا.
هل يقبل النظام العلوي بتغيير ديموغرافي يجعل الشيعة الإيرانية واللبنانية متفوقة عددًيا، على الأقلية العلوية التي تشكل 12 في المائة من سكان سوريا، أم أنه سيلجأ إلى حليفه بوتين والروس، لمنع إيران من «استيطان» سوريا على طريقة إسرائيل في استيطان الضفة؟
على أي حال، لا يبدو النظام شديد الاهتمام بمعرفة نوايا إيران «الديموغرافية»، بدليل أنه يغازل النظام العراقي المرتبط أيًضا بإيران، للتحضير للتغيير السكاني في شرق سوريا، بعد انهيار نظام «الدواعش» في الرقة ودير الزور.
أود أن أشير هنا إلى الإهمال المتعمد للقبائل والعشائر العربية التي سكنت البادية السورية وأراضي الجزيرة (شمال شرقي سوريا) منذ ما قبل الإسلام. فقد تناست الأنظمة السورية المتعاقبة واجبها في خدمتها وتطويرها. مع الاعتراف بالعناية الفائقة التي بذلتها هذه الأنظمة، بنشر الثقافة واللغة العربية في سوريا الشمالية والشمالية الشرقية، إلى درجة أن الأكراد النازحين من تركيا باتوا يتكلمون العربية.
إزاء الإهمال السوري المتعمد، بادرت الأنظمة الخليجية (السعودية. الإمارات. الكويت) مع الأردن إلى استقبال أبناء هذه القبائل والعشائر. فغدا منهم اليوم والأمس ساسة وسفراء. ومسؤولون كبار. وضباط وقادة في الجيوش. لكن هجرتهم همشت الوجود العربي، لصالح الوجود الكردي المتكاثر والمهدد لعروبة سوريا الشمالية.
أسأل: إذا انسحب الأكراد من غرب الفرات، فهل يعيدون السكان العرب الذين هّجروهم خلال الانتفاضة من شرق الفرات؟ وإذا انسحب الأكراد، فهل ينسحب الأتراك من سوريا. ومن حلٍم بإمبراطورية «عثمانية» جديدة يراود إردوغان؟
تاريخًيا، أقول إن الدولة السلجوقية التركية لم تكن مساندة ومقاتلة مع الدولة الحمدانية العربية، في صراعها المسلح مع الإمبراطورية البيزنطية، إلى درجة أن المتنبي وصف، في بلاغة فصحاه السياسية، السلجوقيين بأنهم «الروم» الآخرون. فقال مخاطبا سيف الدولة الحمداني: «وسوى الروم، خلف ظهرك روٌم
فعلى أي جانبيك تميل؟!» ثم أبقت الإمبراطورية التركية (العثمانية) حلفاءها العرب في جهل. وتخلف. ومحاولة لتتريكهم طيلة أربعة قرون (1516 1916 (فثاروا عليها. وكان السوريون بالذات أشد العرب معاناة من قسوة العثمانيين، بحكم الجيرة الطويلة التي ألغت الحدود المشتركة. نعم، كان على العرب انتظار الإمبراطورية العثمانية، للقضاء على الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) التي عاملت العرب بدونية قبل الإسلام وبعده. ثم كان على السوريين انتظار رجب طيب إردوغان، لاستقبال ومواساة ثلاثة ملايين سوري، هاربين من أشرس نظام طائفي في التاريخ العربي.
أين المتنبي الشيعي الغيور على عروبة أمته العربية، من شيعية حسن نصر الله الذي ينتظر «غودو» الشيعي مع أسياده الإيرانيين، على عتبات حلب. والزبداني. ومضايا. وقرى الغوطة التي يموت أهلها العرب جوًعا، بحصار حزب الله اللبناني لهم منذ خمس سنوات؟!