سوريا تنطوي على أكثر من عشرين دينا. وطائفة. ومذهبا. وعرقا. ثم على جاليات عربية. ودينية. وإثنية وافدة من الوطن العربي الكبير. وبلدان آسيوية. وأفريقية. بل وأوروبية (الأرمن). وبعضها عريق في إقامة تعود إلى قرون. فحافظت على فرادتها من دون أن تندرج في العنصر العربي الغالب على السكان، وإن كانت قد شكلت مذاهب وطرقا. لكن تعايشت بسلام. وأمن. واطمئنان. واحترم السوريون خصوصيتها. وتركوها وشأنها.
تحت ظلال عروبة سياسية. وثقافية. ولغوية، تمكنت دولة الاستقلال من أن تتعامل مع هذه المكونات. والجماعات. والجاليات، بذكاء متسامح. فمنحتها حقوقا متساوية في دولة معاصرة، لكن غير حداثية. فهي تارة ديمقراطية. وغالبا ديكتاتورية انقلابية. وسرعان ما تحولت، في غياب الديمقراطية والحرية، إلى ديكتاتورية أقلوية طائفية.
وتمثل هذا التسامح في عدم مس الدولة السورية الديمقراطية أو الديكتاتورية بالهوية الدينية والطائفية لهذه المكونات. مع ذلك، حدثت هبات. وصدامات مؤسفة ناجمة من خوف على الاستقلال. أو غباء نظام مطلق، وصولا إلى انفجار شعبي، لم يعرف حاكم شاب كيف يداريه، بتجربة وحكمة رؤساء أكبر سنا. وساسة أوسع صدرا وصبرا.
وإذا كانت من عبرة لهذا الشاب الذي دخل الآن مرحلة الكهولة، من دون أن يستوعب ما حدث، فقد فات أوان الاعتبار بها. فقد مزق بلده. ودمر مدنه. وتلاعب، هو وطائفته، والمعارضة السياسية والمسلحة، بالتوازنات السورية السياسية. والدينية الدقيقة. فخسرت سوريا وجهها العربي العريق الذي كان عمادا لدورها العربي والقومي. ولنفوذها في الوطن الكبير.
لكن هذه العبرة صالحة لكي تعتبر بها هذه المعارضات المسلحة والسياسية. والدينية، قبل فوات الأوان. فإسقاط الهوية العربية. أو إغفالها. أو إبقاؤها غافية في عمق المخزون النفسي اللاشعوري. وعدم إحيائها على أساس عروبة ليبرالية متسامحة. وعروبة ديمقراطية سياسية قائمة على مساواة في الحقوق الدينية. والسياسية. والشخصية... كل ذلك سوف يبقي سوريا أسيرة هذا الأتون الدامي، بلا هوية. وبلا حاضر. وبلا مستقبل لها وللمشرق العربي.
وأتوجه بالمناشدة عربيا ودينيا، إلى النظام الخليجي، مؤيدا. ومتضامنا، مع تدخله في سوريا. فهذا واجبه وحقه، كنظام عربي شقيق، وذلك لكي يلتقط هذه العبرة المتاحة مجانا، وأيضا قبل فوات الأوان. فدعم معارضة. أو مقاومة مسلحة قائمة على أساس مذهبي أو ديني، لا مستقبل لها كنظام حكم ديني في سوريا، تماما كما أن لا مستقبل لعروبة طائفية ظالمة. ومستبدة. ومحالفة لعدو إقليمي معاد، لكل ما هو عربي في المشرق والخليج.
أقول، هناك قوى سياسية سورية في مختلف المكونات الاجتماعية، واعية. وحريصة على ألا تقع سوريا في مأزق عروبة ديكتاتورية مأزومة. وفي أية تسوية سياسية عاجلة أو مؤجلة، فهذه القوى لن ترضى بحكم ديني معتدل أو متزمت، يغفل الحقوق الأساسية في المجتمع العالمي المعاصر. ولا ترضى أن يكون الحل للسلاح أو بالسلاح.
نعم، هذه القوى صامتة. لأنها خائفة من النظام والمعارضة المسلحة. وهي لا تتحرك. ولا تطالب الآن، لأنها غير مسلحة. لكن صوتها ومطالبها سوف تكون مسموعة. وسوف تحظى بدعم قوى عالمية وعربية. وفي مقدمتها، يجب أن يكون النظام الخليجي الشقيق. فخصوصيته المحافظة تختلف عن الخصوصية السورية المتعددة دينيا. ومذهبيا. والمنفتحة على بحر متوسطي لا تقبل دوله العربية والأوروبية بدولة دينية. وما حدث في مصر. وتونس. والجزائر. والمغرب. ولبنان، شاهد ودليل. فكلها استعادت ليبرالية الدولة المعاصرة. وطامحة لأن تكون دولا حداثية.
وها أنا أقدم الدروز، كمكون جيوسياسي من المكونات السورية التي لعبت دورا وطنيا مهما، في مرحلتي الانتداب الأجنبي والاستقلال الوطني. فهم يتعرضون إلى ضغوط كبيرة، للانحياز إلى قوة من القوى المتناحرة. ويمكن اعتبار رفضهم لإصرار المعارضات الدينية المسلحة على اقتحام منطقتهم الرئيسية (جبل العرب)، أو إكراههم على اعتناق المذهب السني، بمثابة صورة ناطقة منذ الآن، على استحالة إقامة دولة دينية، في سوريا قادرة على فرض نفسها، بالقوة والإكراه على هذه المكونات.
يتميز الدروز بقلة عددهم نسبيا، بالمقارنة بتكاثر الشيعة والسنة. ثم بإيمانهم العميق بعروبتهم، وصولا إلى اعتبار أنفسهم مسلمين موحدين، في مذهبهم الديني السري. غير أن زعاماتهم تغطي على النقص في العدد، بقوة وحيوية أدائها السياسي في لبنان وسوريا. لكن تناولها بالنقد والسخرية، للمحرمات المحاطة بركاكة الضغط الطائفي على السياسة في البلدين، عرض هذه الزعامات إلى التصفية القسرية. فظل سلطان الأطرش الذي فتك بلواء مدرع فرنسي، معرضا للملاحقة طوال عهد الانتداب الأجنبي.
كان الدكتور عبد الرحمن الشهبندر قائد الثورة السورية الكبرى (1925 - 1927) أول زعيم سوري تنبه إلى المأزق الطائفي. فنادى بسلطان الأطرش قائدا لهذه الثورة. وتعرض هذا الكريم للتشويه. فقد اقتحم الديكتاتور أديب الشيشكلي جبل العرب بالدبابات (1953). فاضطر الأطرش إلى اللجوء إلى الأردن. ولم يعد إلا بعد سقوط نظام الديكتاتور.
للأمانة مع حقائق التاريخ، أقول إن الدروز اعتمدوا على الإنجليز، عندما اعتمد الموارنة على فرنسا، في مرحلة ضعف الإمبراطورية العثمانية. وكان استقلال البلدين في منتصف الأربعينات «إنجليزيا». فقد تدخلت بريطانيا عسكريا، لطرد قوات فيشي الفرنسية من البلدين (1941). ثم أجبرت الجنرال ديغول على منحهما الاستقلال التام (1945)، بعدما تلكأ في تنفيذ وعده. ولعبت الأميرة الدرزية (أسمهان) دورا، في إقناع الدروز، بمساندة الإنجليز. ولعل هذا هو السبب في جريمة قتلها غرقا (1944) التي ما زالت ملابساتها مجهولة.
وفي لبنان، لعب الأمير الدرزي المثقف والمفكر شكيب أرسلان. ثم حفيده كمال جنبلاط دورا ثقافيا وسياسيا بارزا، بالدعوة إلى عروبة حرة. وتجاوز الطائفية التقليدية. لم يتسامح النظام العلوي السوري، عندما احتل لبنان، مع حلف كمال جنبلاط وياسر عرفات الذي ارتكب خطأ توريط الفلسطينيين في اللعبة الطائفية اللبنانية. فكان اغتيال جنبلاط (1977) صدمة كبيرة، للأجيال السياسية الجديدة في البلدين.
اليوم، يلعب وليد جنبلاط (نجل كمال) ذروة أدواره السياسية الدقيقة، في محاولته تجنيب الدروز السوريين لهيب الحرب الأهلية السورية، بدعوتهم إلى الالتزام بالعروبة، ضد بعض دروز إسرائيل الذين يحرضونها على التدخل في سوريا، لإنقاذ الدروز «المحاصرين» من جبهة النصرة في الغرب، وتنظيم داعش الزاحف صحراويا من الشرق، باتجاه الحدود الأردنية جنوبا.
وليد جنبلاط يحث دروز سوريا، على عدم التورط بالانحياز إلى نظام طائفي أشعل حربا أهلية. وفي علمي، فهو يستغل علاقته الوطيدة بالنظام الخليجي، لإقناعه بالضغط على تنظيمات المعارضة الدينية، بالكف عن تجاوزاتها الطائفية، وذلك بعد المجزرة التي ارتكبتها «جبهة النصرة»، في قرية «قلب لوزة». وهي إحدى القرى الدرزية النائية المرشوشة على الحدود بين محافظتي إدلب واللاذقية.
أحسب أني لست مخطئا في اعتقادي بأن وعي النظام الخليجي، لحقائق التطورات الميدانية السورية سوف يساعد الطائفة الدرزية، على ملء الفراغ السياسي والعسكري الذي يتركه وراءه انسحاب قوات النظام من جبل الدروز، بعد هزيمتها في محافظتي حوران والجولان المجاورتين. وكلي أمل في أن غيرة وعروبة النظام الخليجي ستقطع الطريق، على استغلال إسرائيل للمأزق الدرزي، في تقديم نفسها، كحامية لأكذوبة حماية الأقليات التي تشدق بها نظام الأسد.