في الأيام الخوالي، كانت هناك مساجلات طريفة بين حمص وزحلة في الدعابة والنكتة، بلا «زعل». وبلا أحقاد. كانت النفوس صافية. وكان التعايش سهلا. فلا حدود. ولا سدود. ولا يحزنون.
قبل أن يولد بشار (1965). وقبل أن تتشكل غيمة «داعش» و«جبهة النصرة» السوداء، كان هناك نجيب حنكش البقاعي «الزحلاوي». فقد ملأ الأجواء دعابات ونكاتا عن «الحماصنة». فأضحك السوريين واللبنانيين. وكان «الحماصنة» أهل ظرافة ونكتة. لكنهم كانوا أذكى السوريين. فأنجبوا ثلاثة رؤساء دولة. ووزراء. وساسة. ونوابا. وأدباء. وملكات جمال. وقبل أن يهدم بشار حمص ببراميل بوتين المتفجرة، وبمرتزقة «حزب الله»، وميليشيات الشيعة العراقية والإيرانية، كان أهلها من سنة. ومسيحيين. وعلويين، يتعايشون بسلام. ومنها انطلق الماروني بطرس ديب إلى لبنان. فكاد ينصّبه الموارنة رئيسا للجمهورية، عندما قال لهم إن علاقتهم بفرنسا (الأم الحنون) تعود إلى لويس التاسع. ولم يقل لهم إن المصريين أسروه في دلتا النيل، في الحروب الصليبية.
غادر أهل حمص مدينتهم المهدمة. فلجأ جانب كبير منهم إلى لبنان. فاستقبلتهم بلدة عرسال الحدودية المضيافة التي ربطتها بأهل منطقة القلمون الفاصلة بينها وبين حمص، قرابة ومودة. وكان بشار استعان بمرتزقة «حزب الله» لتهجيرهم. فلجأوا بدورهم إلى عرسال وجرودها.
من سوء حظ اللاجئين السوريين إلى لبنان، أن الميليشيات «الجهادية» لحقت بهم، وعلى رأسها «جبهة النصرة». فتغلغلت في المخيمات التي أقاموها. ثم تعرضت إلى الانقسام. فولد تنظيم لـ«داعش» الذي يقيم دولته أصلا في شمال العراق وشرق سوريا، بعيدا عن لبنان.
اليوم، هناك نحو مليوني سوري في لبنان، مقيمين. وعاملين. ونازحين. وقد عاملهم اللبنانيون، شعبا وحكومة، بكرم وكرامة، باستثناء «حزب الله» الذي يضيق بهم. مع الأسف، لم يكن التزام النازحين السوريين بأدب الضيافة تاما. وخصوصا المسلحين منهم.
حرب عرسال شاهد ودليل على ذلك. نزل مسلحو «النصرة» و«داعش» من جرود البلدة، فاجتاحوها فجأة. روَّعوا أهلها. واصطدموا بقوات الجيش اللبناني وقوى الأمن المرابطة هناك. دارت معركة انتهت بقتلى وجرحى من الجانبين. واعتقال سلطان «داعش» (عماد جمعة). وإخلاء «الجهاديين» البلدة، عائدين إلى الجرود، وخاطفين معهم نحو 40 جنديا ورجل أمن!
تبرعت «هيئة علماء المسلمين» بالتوسط. حسبت أن تشددها الديني القريب من تزمت «الجهاديين» كافٍ لإقناعهم بالإفراج عن العسكريين المعتقلين. أخفق مشايخ الهيئة. عادوا من الجرود بأسيرين فقط. ذهبوا إلى رئيس الحكومة تمام سلام معلنين تخليهم عن الوساطة. فصعود الجرود الوعرة مغامرة خطرة، في غمرة صواريخ حزب الشيعة وبراميل بشار التي تتناوب قصف هؤلاء «الجهاديين» المهزومين في حرب القلمون.
وتبيَّن أن «للجهاديين» مطالب وشروطا بعضها عادل. كالمطالبة بالعناية بجرحاهم الذين تركوهم وراءهم. وعدم التشدد في حملات التفتيش والاعتقال داخل المخيمات السورية. وقد تجاوبت الحكومة وقوات الأمن مع هذه المطالب. لكن المفاوضات تجمدت. وتوقفت عند اشتراط «جبهة النصرة» إفراج السلطات اللبنانية، عن عدد من معتقليها في السجون اللبنانية، في مقابل الإفراج عن العسكريين المحتجزين لديها.
رفضت السلطة العسكرية والأمنية الإفراج عن «الجهاديين» المعتقلين لديها. قالت إنهم وديعة لدى القضاء. وهو وحده له حق التصرف بهم. ثم جاءت تصريحات قائد الجيش العماد جان قهوجي في مؤتمره الصحافي، بمثابة صدمة للسوريين النازحين ولـ«الجهاديين».
في ثورة غضبه، يبدو العماد قهوجي، في نظر «الجهاديين» والسوريين النازحين، وربما أيضا في نظر قطاعات من السنة اللبنانية، مبالغا في التهويل باحتمال إنشاء «الجهاديين» إمارة إسلامية في شمال لبنان.
الواقع العسكري يوحي بأن العماد قهوجي ربما أخطأ، في تقييم الوضع الميداني. فقد أحكمت قوات بشار وحسن نصر الله، حصار شمال لبنان وشرقه، بعد الاستيلاء على حمص، وإقليم القلمون الممتد بين حمص ودمشق. وبالتالي، فالخطر الشيعي/ العلوي ماثل في إمكانية اجتياح قوات النظام السوري و«حزب الله» شمال لبنان، وضمه إلى مشروع الدولة الشيعية/ العلوية، في حال تغيير الخريطة، وانهيار الحدود والكيانات القائمة، في المشرق العربي.
بل يذهب بعض المعترضين والمعلقين على تصريحات العماد قهوجي، إلى اتهام الجيش اللبناني بالانحياز إلى «حزب الله». فهو، حسب ادعائهم، يلاحق بلا هوادة «الجهاديين»، فيما تتولى قواته حماية قواعد «حزب الله» التي ينطلق منها المقاتلون الشيعة إلى سوريا!
في المنطق الطائفي السائد، أخشى أن تنال هذه الاعتراضات والاتهامات، من فرص العماد قهوجي، كمرشح «قوي» لرئاسة لبنان. العماد قهوجي يطمح إلى أن يحاكي النجاح الذي حققه ميشال سليمان الذي غادر المنصب رافضا التجديد والتمديد، احتجاجا على رفض «حزب الله» سحب مرتزقته من سوريا، فهذا الرفض يهدد كيان لبنان، واستقلاليته عن الصراعات العربية والإقليمية.
الزيارة الخاطفة للبنان التي قام بها سعد الحريري رئيس تيار «المستقبل» الذي يشكل القاعدة السياسية للسنة اللبنانية، اقتصرت على حمل الدعم السعودي الفوري، بمليار دولار لقوى الأمن والجيش، لرفع معنويات الحكومة اللبنانية، بعد حرب عرسال.
لكن الزيارة لم تأت بشيء جديد، على صعيد الأزمة الرئاسية. السعودية تؤمن بأن الانفراج النسبي في العراق الناجم عن سحب الطائفي المتزمت نوري المالكي من التداول، لم ينسحب، بعد، على لبنان. مع ذلك ما زال الخبير الأثري وليد جنبلاط يواصل عمليات الحفر والتنقيب عن رئيس للبنان، وسط الفراغ الذي أحدثه غموض موقف «حزب الله» وإيران، إزاء الأزمة الرئاسية.
الطرافة المرة تكمن في امتناع تيار 8 آذار (المدعوم بحزب الله)، وتيار 14 آذار (المدعوم بتنظيم «المستقبل» الحريري) عن تقديم الدعم المطلوب لمرشحيهما (ميشال عون وسمير جعجع) لإيصال أحدهما إلى مقعد الرئاسة. الحزب الشيعي لا يثق بمرشحه عون العنيد والمتقلب. وتيار 14 آذار يشك ضمنا في قدرة جعجع الخصم العنيد لعون، على استقطاب كل الموارنة وراءه.
وهكذا، فالرئيس «القوي» بات عملة نادرة. فقد استنفد «الأقوياء» الثلاثة (عون. جعجع. قهوجي) فرصهم الانتخابية بتصلبهم، مع العلم أن لا شيء يستحيل في لبنان. فعنصر المفاجأة متوفر لحمل أحدهم إلى المنصب العتيد، بتعديل دستوري اقترحه المرشح (التوافقي) بطرس حرب، باعتماد الأغلبية النيابية المطلقة، بدلا من أغلبية الثلثين التي أخفقت إلى الآن في انتخاب الرئيس العتيد.
قد يسألني سائل لبناني منشغل البال بالمال: «وماذا حدث للثلاثة مليارات دولار؟!». أجيب بأن السعودية أعلنت أنها تنتظر إعداد الجيش والحكومة في لبنان، لجداول الأسلحة المطلوب شراؤها من فرنسا. صفقات السلاح، عادةً، متاهة لتضييع الوقت. القيادة السعودية طمأنت المسؤولين اللبنانيين والفرنسيين، بأنها جاهزة فورا لصرف المال، فور الاتفاق النهائي على الأسلحة المطلوبة.
سمعت همسا أن «حزب الله» يقترح شراء صواريخ إيرانية للبنان! المثل الشعبي يقول: «حيل المفلس على المفلس ترى العجب». راهنت «حماس» على صواريخ التنك الإيرانية. فلم تتمكن من إصابة هدف عسكري إسرائيلي واحد. إذا طال الروتين، وتاه لبنان في متاهة الصفقة السلاحية، فكلّي أمل بحكمة القيادة السعودية. فلعلها تنفق الوديعة المالية المخصصة للبنان، على شكل قروض مُيسَّرة، تقدمها باسمها إلى الشباب اللبنانيين، للاستثمار في مشاريع تجارية صغيرة. فقد تجاوزت نسبة البطالة في لبنان 30 في المائة. ولا تعترف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلا بنصفها.