غسان الإمام
1916: انطلق من آخر قرية في جنوب ولاية الشام (الأردن حاليا)، جيش عربي شاقا طريقه، عبر الصحراء الأردنية، إلى دمشق على بعد ألف كيلومتر شمالا.
كان الهدف تحرير آخر بلد عربي (سورية) من الاستعمار التركي. وإطلاق رصاصة الرحمة على الخلافة العثمانية. وتأسيس أول دولة عربية مستقلة في المشرق منذ ألف سنة. فقد تداول العربَ ووطنهم الكبير، خلالها، حكامٌ شتى من مماليك. وأغوات. وفرس. وكرد. وترك. وتتار. ومغول. وصليبيين.
كان عماد هذا الجيش ضباطا عراقيين وسوريين جمعتهم هوية الانتماء إلى العروبة. والرغبة في الاستقلال والوحدة. فغادروا جبهات القتال، حيث كانوا يقاتلون مع القوات التركية في الحرب العالمية الأولى (1914/ 1918) ثائرين على إعدام جمال باشا الحاكم التركي لولاية الشام (سورية. لبنان. فلسطين. الأردن حاليا) لنخب من الساسة والمثقفين السوريين واللبنانيين.
قاد هذا الجيش الأمير فيصل النجل الثالث للشريف حسين والي مكة المكرمة الذي تلقى وعودا رسمية من بريطانيا وفرنسا، بتأييد ودعم ثورة الاستقلال العربية. ولم يكن فيصل وأبوه حسين على علم باتفاق سايكس / بيكو الذي وُقع سرا في العام ذاته، لتقسيم المشرق العربي بين الإنجليز والفرنسيين.
كان العرب آنذاك قد عاشوا مئات السنين في سلام، متآخين، من دون أن تمزقهم فروقهم الدينية. والمذهبية. والطائفية. وانتماءاتهم الجهوية والمحلية. ثم صعدت بهم في القرن الماضي اليقظة العربية، إلى مستوى التعلق بالوحدة القومية، لأمة كبيرة تأخرت كثيرا عن العصر. والوعي. والعلم.
حقق الجيش العربي نصرا كبيرا. فقد وصل الأمير فيصل إلى دمشق، قبل وصول الجيش البريطاني الزاحف من مصر عبر فلسطين. فقد هزم الأتراك الإنجليز. فغرقوا في قناة السويس. فأعاد المارشال ألّنبي (Allenby) انتشالهم. وواصل الزحف. وعندما دخل القدس قال: «الآن انتهت الحروب الصليبية»!
كان فيصل شديد الريبة بموقف الحلفاء الأوروبيين. فسارع إلى إعلان دولة الاستقلال العربية في دمشق. وشكل حكومة وطنية ضمت وزراء سوريين ولبنانيين وعراقيين. وجمع الوزراء والساسة اللبنانيين والسوريين في مؤتمر مشترك، لوضع دستور ديمقراطي للدولة، ليقطع الطريق على التقسيم، بعدما علم في مؤتمر فرساي الذي أعقب نهاية الحرب العالمية، بملابسات اتفاق سايكس/ بيكو.
لكن فيصل سارع إلى الانسحاب من سورية إلى شرق الأردن، حيث أسس شقيقه الثاني عبد الله بن الحسين إمارته الأردنية بالتعاون مع الإنجليز (1921). ترك فيصل وراءه وزير دفاعه يوسف العظمة. وكان من الضباط القوميين. غير أن الجنرال غورو الذي كان قد احتل الساحل السوري واللبناني زحف إلى دمشق. وتغلب على مقاومة الجيش السوري الصغير في روابي ميسلون إلى الغرب من دمشق، حيث استشهد هناك وزير الدفاع.
في دمشق، توجه غورو رأسا إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي شاهرا سيفه. وصائحا: «ها قد عدنا يا صلاح الدين». لكن حظه كان متعثرا. فقد أصيب بجروح طفيفة في محاولتين لاغتياله في سهل حوران ومرتفعات الجولان. وقتل الحوارنة رئيس حكومته علاء الدروبي وعددا من وزرائه. كان هؤلاء الثوار أجداد ثوار الانتفاضة السورية الراهنة الذين قتل منهم نظام بشار ومرتزقة حزب الشيعة اللبنانية الألوف.
لم تتوقف الثورات السورية المسلحة في زمن الانتداب الفرنسي (1920/ 1946) التي قادتها بنجاح باهر القيادة السياسية السورية الموحدة تحت راية العروبة. فلم يرتفع صوت باسم الطائفية والعنصرية، بالمقارنة مع الإخفاق (الباهر) للمعارضتين السياسية والمسلحة حاليا.
بل لم تعترف عشائر الصحراء السورية بالحدود الاستعمارية بين العراق وسوريا. فقد كانت العلاقة العشيرية والاجتماعية مع عشائر العراق أقوى عاطفيا من الحدود المرسومة على الرمال. وعندما حاول حافظ الأسد ضرب وتخريب القواعد اللوجيستية الخلفية للجيش العراقي خلال الحرب مع إيران (1980/ 1988) تصدت له العشائر الحدودية (السنية) وأحبطت محاولات مخابراته التخريبية.
بعد تقويض المملكة الفيصلية، وانسحاب فيصل وضباطه العراقيين. وكان بينهم نوري السعيد. لم تنتهِ الألفة والمحبة بين السوريين والعراقيين. فقد ظل الهوى السوري بليلى العراقية قوميا ووحدويا عدة أجيال.
رغب الإنجليز في التعويض على فيصل. فأسندوا إليه مُلك العراق. وتأسيس دولته الحديثة. فشهد عهده بفضل حكمته وصبره (1921 / 1933) هدوءا نسبيا لم تعرفه السياسة العراقية، بعد وفاته الغامضة في سويسرا.
فقد قتل نجله الملك غازي المتحمس قوميا، بحادث سيارة غامض أيضا (1939). ثم قتل الملك فيصل الثاني نجل غازي في الانقلاب الدموي المروع الذي أنهى حكم الأسرة الهاشمية (1958). ولم ينجُ منها سوى الأمير زيد بن الحسين الشقيق الأصغر لفيصل، لعدم وجوده في بغداد آنذاك. فانتقل إلى العيش مع الأسرة الهاشمية المالكة في الأردن، وتوفي في أوائل السبعينات.
سعى الإنجليز إلى إسكات الشريف حسين والي مكة، بعد احتجاجه المتواصل على الأوروبيين. فنفوه إلى قبرص. فتوفي في عام 1931 ودفن في القدس.
لم يكن الوعي بالعروبة لدى الملك عبد العزيز بأقل من وعي الملك فيصل. فقد التقيا في نهاية العشرينات لرسم الحدود بين السعودية والعراق، لوضع حد لاقتتال العشائر على الجانبين. وما زال الاتفاق معمولا به إلى الآن، باستثناء فترة احتلال صدام للكويت، وحشده مليون جندي عراقي على الحدود مع السعودية.
أمضي في الرواية مركزا على مسيرة العلاقة السورية / العراقية الحميمة منذ خمسينات القرن الماضي، لتعرف الأجيال السورية والعربية جانبا من تاريخ المشرق العربي المعاصر الذي طمسه أو زيفه الأسد الأب والابن. ولحثّ المؤرخين العرب على كشفه وتحليله بالتفصيل. فالأمة التي لا تعرف تاريخها على حقيقته تفقد ذاكرتها. وتضيع اتزانها السياسي. ووعيها العقلاني.
لحق بفيصل إلى العراق عدد كبير من السوريين الذين حاربوا أو عملوا معه. فشاركوا في بناء أطر الدولة الجديدة هناك. ولا سيما في المجال التربوي. كأمثال المفكر والمربي القومي ساطع الحصري.
لكن الإنجليز والفرنسيين قيدوا جدا الانفتاح السوري على العراق والأردن، على الرغم من هجرة عوائل تجارية دمشقية أو فروع لها إلى الأردن بالذات، حيث انخرطوا في صميم الاقتصاد الأردني. وعندما نشبت ثورة رشيد عالي الكيلاني وضباطه القوميين الأربعة ضد الإنجليز في العراق (1941)، التحقت بها أعداد غفيرة من المناضلين والسياسيين السوريين، كأكرم الحوراني وغيره.
وأذكر أن وفاة المناضل السياسي ياسين الهاشمي. ومقتل وزير الدفاع جعفر العسكري في العراق، كانا مناحة كبيرة في سورية. بل تقبل الجيش السوري برحابة صدر قيادة العراقي طه الهاشمي (شقيق ياسين) للجيوش العربية في حرب النكبة (1948). لكن القيادة الفعلية كانت للجنرال البريطاني المستعرب كلوب (أبو حنيك) قائد الجيش الأردني آنذاك.
في حديث الثلاثاء المقبل، أروي ملابسات السباق بين قوى اليسار واليمين في سوريا، لحث عراق نوري السعيد على التدخل العسكري في سوريا! ثم كيف أصيب الرئيس جمال عبد الناصر بإحراج كبير، عندما عرف أن أحد نوابه السوريين في رئاسة جمهورية دولة الوحدة قد «ترسمل» بالمال السياسي العراقي. وأيضا لماذا كان أكبر الأحزاب السياسية السورية (حزب الشعب) يكتم هواه بليلى العراقية، فيما كان جيل الخمسينات السوري قد نقل هواه إلى مصر الناصرية.