غسان الإمام
كأني بالشاعر العربي القديم يزور العرب في محنتهم بالزمن الإيراني الصعب، مواسيا لهم. ومخففا عنهم بقوله: «يعطيك من طرف اللسان حلاوة / ويروغ منك كما يروغ الثعلب». والمراوغة، في أبسط تعريف لها، هي التغطية بالكلام أو الممارسة، على النيات غير الطيبة التي تنطوي عليها النفس البشرية.
تزدهر المراوغة السياسية في عصر الفوضى. لا مكان للمصارحة في أجواء الفراغ السياسي، ومع غياب واستحالة التسويات والحلول السياسية للأزمات. وللحروب. وللعنف الاجتماعي والديني، فأنت ضحية للدول. للسياسة. للنظام. والتنظيم. الكل يراوغ لتغطية العجز عن الحل. لتأجيله. لعرقلته. أو حتى للإمعان في مبالغة التعبير عن «نجاح» الدبلوماسية في التسوية.
«التقية» أداة المراوغة في المذهب الإيراني، لكي يقول الأضعف ما يشاء، لتجنب غضب الأقوى. فكانت التقية ولا تزال تعبيرا عن الخوف الجماعي من تزمت المؤسسة الدينية. أو لتجنب سيف العنف الديني. والقوة الغاشمة للاحتكار السياسي للسلطة.
في تزمت عنفه الديني، يلجأ حسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله» إلى التقية للمراوغة في التغطية على تعطيل انتخاب رئيس مسيحي للبنان، بعدما أكره هو. وحزبه. وإيران، رئيسا مسيحيا متزنا (ميشال سليمان) على العزوف عن ترشيح نفسه، لولاية رئاسية ثانية.
ثم ها هو نصر الله يستخدم التقية للمراوغة في الدعاية لحزبه الذي يسفك دماء العرب في سوريا. ويهاجم السعودية. لأنها تحاول منع الحوثيين من محاكاة دوره كأداة للعنف الإيراني في العالم العربي.
علي. وعبد الله. وصالح؟! كم سخّر ويسخر الرئيس اليمني السابق هذه الأسماء الكبيرة في التغطية على التقية التي مارسها على مدى ثلاثين سنة رئاسية، في مخادعة القبيلة. والحزب. والتنظيم. واليمن. والعرب. وأميركا، فتقبل به التقية الإيرانية حليفا للحوثية في ضرب عروبة اليمن. وتعطيل الحل الخليجي للأزمة الطاحنة التي تستنزف بلد العروبة العاربة.
في عصر ديمقراطية الإعلام الإلكتروني التي أتاحت لأشباه الأميين والمتعلمين، ممارسة الابتذال الخطير للفكر. والوعي. وحرية التعبير، تنشأ علاقة وثيقة بين فن المراوغة السياسية وفن الحداثة الإعلامية. كانت وسائل الإبلاغ والتبليغ معدومة، باستثناء المسجد والكنيسة اللذين استخدما، كأداة لإعلام «المؤمنين»، بقرار السلطان السياسي. ثم الطلب منهم الدعاء له بالنجاح والفلاح، من دون أي حوار. أو تحليل. أو مناقشة لصوابية القرار.
حلف المراوغة والإعلام انتزع المبادرة من المؤسسات الديمقراطية والفكرية. وهوى إلى فوضى الشارع الشعبي. لم يعتذر بشار لأطفال درعا ليختصر المأساة السورية. أوكل إلى أجهزته المخابراتية (أدوات العنف والمراوغة) وإلى إعلامه المبرمج والموجه، تسييس الشارع لصالح تنظيم العنف الديني (القاعدة. النصرة. داعش)، ليسهل عليه اتهام شعبه بالتزمت. وقصفه وتدمير مدنه. وقراه، بالبراميل المتفجرة.
وهكذا نشأ حلف النظام والتنظيم، لاستغلال المراوغة والإعلام، في المخاطبة الدعائية لجماهير «المؤمنين» بصوابية تسييس الدين: النظام يدعي مكافحة العنف الديني، من دون أن يقدم مبادرة للحل السياسي، ويرسل عملاء المخابرات الذين يديرون مكاتب الوزراء، كأعضاء في وفد وليد المعلم الرسمي في محادثات جنيف. فيما التنظيم المهيمن بالسلاح على الحرب الميدانية جرد المعارضة السياسية من أي إسناد، يمكنها من انتزاع اعتراف رسمي، بضرورة تقاسم السلطة.
يمارس المبعوث الدولي دي مستورا المراوغة في مفاوضات «مستورة» وغامضة في جنيف، من دون وجود إرادة دولية لفرض حل في سوريا. بل يستدعي إيران للمشاركة مع فصائل سورية، في رسم أفق المستقبل السوري، من دون الرجوع إلى الدول العربية! وكأنه بذلك يصر على منح إيران اعترافا دوليا «مستورا» بحق التسلل والهيمنة على العالم العربي!
في الوجه «الإنساني» لحلف المراوغة والإعلام، تغدو «الإغاثة الدولية» لضحايا الحرب أداة بان كي مون المنحاز للمراوغة الأميركية. وكأن أميركا أوباما تحاول حرمان دول التحالف الخليجي، من تحقيق النجاح في اليمن، تحت الترويج لوقف قصف الحوثيين، بحجة تقديم المعونة الإنسانية لليمن.
فن المراوغة الأميركية المتراوح بين «دعم» الجهد الحربي الخليجي، والمجاملة «النووية» لإيران، ربما يقتضي تعطيل عبور سعودي إلى إقليم صعدة، لإنهاء زعامة العميل عبد الملك الحوثي التي عبثت بأمن وسلام اليمن وتعبث بأمن السعودية، لصالح إيران.
لماذا الإغاثة الأميركية لليمن. ولوقف الحرب فيها، من دون إغاثة أميركا لسوريا. والعراق. ولوقف الحرب فيهما؟! الجواب عند الرئيس أوباما المقرر أن يلتقي اليوم (الثلاثاء) قادة الخليج، في محاولة لبيعهم مشروع الاتفاق النووي الأميركي / الإيراني.
أوباما سيستخدم بلاغة لغته السياسية، لإقناعهم بأن لا داعي لقلقهم. وليس هناك تهديد لأمنهم ووطنهم! إذا امتلكت إيران القنبلة المخيفة، بعد مرور عشر سنوات على الاتفاق المهزوز معها! هل يعتذر لهم عن عدم ضمهم إلى الحلف الغربي المفاوض لإيران؟ أو ربما يقنعهم بأن لا حاجة لرادع عربي نووي. يكفي الانضواء تحت مظلة حلف الحماية الأميركية، كما تقترح مراوغة وزيره كيري الدبلوماسية.
في فوضى المراوغة في الحرب الباردة بين أوباما الديمقراطية وعشيرة الكونغرس، يواصل طيران أوباما تشكيل المظلة الجوية لميليشيات إيران العراقية التي تقاتل «داعش» في معاقل السنة في العراق، رافعة صور خامنئي والخميني وقاسم سليماني على دباباتها ومدافعها.
أما الكونغرس فقد ألزم إدارة أوباما بعرض الاتفاق النووي مع إيران على مجلسيه. ووصلت حرب المراوغة إلى حد اعتبار العراق ثلاثة كيانات منفصلة شيعية. كردية. سنية، والتعامل معها على هذا الأساس في التسليح. ثارت ثائرة النظام الشيعي في العراق. واعتبر في مراوغته قرار الكونغرس، بمثابة تقسيم للعراق. وتهديد لتعامله مع إيران.
كصحافي يؤمن بحرية تدفق المعلومات، لست ضد زيارة الصحافيين الأميركيين لمجاهل العالم العربي. لكن أتمنى على النظام العربي حرمان الصحافيين تيم أرانغو وآن بارنارد من دخول المضافة العربية الممتعة، بعد نشر بكائيتهما المنحازة إلى الشيعة في «نيويورك تايمز». صحيفة كبرى كـ«نيويورك تايمز» يجب أن تعرف شيئا عن التاريخ. فالعراق صناعة عربية سنية، قبل ولادة المذهب الشيعي. وقبل استجداء أحمد الجلبي البنتاغون، لحث إدارة بوش على إسقاط عروبة العراق، مستغلا إساءة صدام للسنة والشيعة.
لم يعد في جعبتي للتخفيف من مشقة قراءة هذا الموضوع الصعب عن فن المراوغة، سوى تسلية القارئ، بسؤال أميركا في بدء تدريبها للجيش السوري الحر، عما إذا كان سيشمل تدريبه احترام الديمقراطية المنشودة في سوريا. وليس تدريبه على محاكاة الديمقراطية «الإخوانية» المخلوعة في مصر.
أتمنى على دور النشر العربية عدم مجاراة الصحف اليومية في مراوغة «حزب الله». أريد أن يقرأ القارئ اليومي النص الكامل لشهادة أمثال وليد جنبلاط. مروان حمادة. نهاد المشنوق. أشرف ريفي... الذين كشفوا فن المراوغة في الحياة السياسية في عصر الاحتلال السوري للبنان.
الخاتمة في ملف المراوغة لنظام السودان الفضائي. قال إنه يخوض «حرب النجوم». وأسقط جرما فضائيا لامعا. المراوغة هنا في عدم الاعتراف بغزو الفضائيين الإسرائيليين، للمحطة الفضائية السودانية التي كانت تتولى تمرير صواريخ التنك الإيرانية إلى فضائية حماس في غزة.