غسان الإمام
مات ستالين مطمئنًا في عام 1953. فقد أبلغه عبد المطلب الأمين، القائم بالأعمال السوري في موسكو، بأنه «لا مطامع لسوريا في روسيا». ولم يفعل الدبلوماسي السوري ذلك سرًا. بل سجل الموقف السوري علنًا أمام ستالين، عندما جاء دوره لإلقاء كلمة قصيرة في حفل شعبي ورسمي عام.
افترَّ شارب الجورجي ستالين عن ابتسامة عريضة، قلما فعلها أمام الروس الذين حكمهم أكثر من ثلاثين سنة بالآيديولوجيا الماركسية. وجورجيا دولة صغيرة مشاغبة بجوار روسيا، هاجرت إليها أقوام من أقصى الشمال الشرقي السوري. وتستطيع أن تتبين من لغتها أصولها السريانية والعربية.
لم يعش طويلاً المثقف الماركسي عبد المطلب الأمين. وهو نجل علاَّمة شيعي معتدل. وقد ملأ الأجواء الثقافية السورية بمرحه وظرفه. وعمق ثقافته. فقد مات قبل أن تسحب إيران الشاهنشاهية ثم الخمينية الشيعة العرب من العروبة. والسياسة. والثقافات الإنسانية. وإلى الآن، لم يجرؤ شيعي مثقف أو عادي أن يقول لستالين «حزب الله» إن الشيعة هم أيضًا عرب. وليست لهم مطامع في سوريا. ولا يقبلون بالمجازر التي يرتكبها مرتزقته في سوريا.
القوميسار فلاديمير بوتين لا قرابة له بالساحر والمشعوذ السياسي راسبوتين الذي تحكّم بالقيصرة زوجة القيصر نيقولا الثاني. من قال إن النساء لا يملكن القوة والنفوذ؟ فها هي القيصرة بعلاقتها الغامضة مع راسبوتين، قد تسببت في سقوط آخر القياصرة. لكن ضابط المخابرات بوتين ورث روسيا من القياصرة الحمر الذين خلفوا ستالين.
المشكلة في بوتين أن له مطامع في سوريا. وهو يرتكب غلطة الرفيق ليونيد بريجنيف الذي تدخل عسكريًا في أفغانستان. فاختصر عمر النظام الشيوعي في روسيا وأوروبا الشرقية. ويبدو أن بوتين لا يملك خبرة القياصرة الحمر في الشؤون السورية والعربية. فقد كان مجرد ضابط في مخابرات الـ«كيه جي بي»، مزروع في الرفيقة ألمانيا الشرقية، ومتخصص في متابعة الشؤون الأوروبية، وبالذات ألمانيا الغربية.
لا أنطوي على عداء اليهود الشديد لبوتين. فقد استعاد شركات القطاع العام الروسية التي باعها رئيسه بوريس يلتسين مع روسيا إلى المتمولين اليهود الروس بثمن بخس. ومولت المصارف الأميركية والأوروبية عملية الشراء بقروض ميسرة. ومن ثم بدأ اليهود المتمولون يستخدمون أرباحهم الطائلة في شراء ذمم الأحزاب الروسية الجديدة.
وفي مقدمة هؤلاء المتمولين ميخائيل خودوركوفسكي الذي كان مالك أكبر شركة نفط في روسيا. وعرف بوتين، عبر القضاء، كيف يرسله نحو عشر سنين إلى سيبيريا. ثم أطلق سراحه أخيرًا. فهاجر إلى الغرب متعهدًا له بالوفاء لروسيا. فغدر بها وببوتين في مقالاته المضادة في الصحافة الغربية. أما رفاقه المتمولون الآخرون فقد فروا إلى بريطانيا وإسرائيل التي يعتزم رئيس حكومتها زيارة موسكو قريبًا، لمعرفة ماذا سيفعل بوتين في سوريا.
في متابعتي لبوتين، الرجل لم يكن شيوعيًا. فهو وطني صلب. لكنه متألم نفسيًا لسقوط النظام الشيوعي الذي جعل من روسيا ندًا قويًا لأميركا سياسيًا وعلميًا. وزاد من ألمه تدخل أميركا والاتحاد الأوروبي في شؤون روسيا الداخلية، من تمويل المعارضة إلى تبشير الروس الأرثوذكس بالكاثوليكية والبروتستانتية. ثم دفع حلف الناتو إلى محاصرة روسيا، وصولاً إلى أوكرانيا، وتمزيق شعبها السلافي الذي قاتل بشجاعة إلى جانب روسيا الغزو الألماني النازي في الحرب العالمية الثانية.
أعتقد أن المتاعب النفسية والشخصية تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل موقف بوتين. فهو متألم من التدخل الغربي في روسيا. ومن عقوبات الحصار التي أفلحت في تقليص ازدهار الاقتصاد الروسي الذي هو سر شعبية بوتين لدى الناخب الروسي الذي وضع حزبه في مقدمة الأحزاب الروسية، بما فيها الحزب الشيوعي الذي احتفظ بالماركسية اللينينية.
بوتين أيضًا كروسيا التي لا تمتلك إرثًا ديمقراطيًا. وبالتالي كان سهلاً على النظام الشيوعي ونظام بوتين عدم الشعور بالحرج، من التعاون مع قمع النظام الرئاسي العربي. بل تزويده بخبرات وأدوات التعذيب الرهيبة التي طورتها روسيا. وبلغاريا. وألمانيا الشرقية.
ثمة عامل نفسي آخر يجعل بوتين لا يأبه لشقاء الأسرة السورية التي تتعرض للإبادة الجماعية، بالبراميل المتفجرة التي هي، كما يقال، ابتكار عسكري روسي. انفصال بوتين عن زوجته يوحي بأنه ليس عائليًا. ولا يستحي من إنقاذ رئيس سوري هو بدوره لا يملك إحساس الطبيب وأبوته لثلاثة أولاد.
عنصرية بوتين السلافية لا تتعاطف مع الأسرة السورية. لكن أحد أسباب التدخل العسكري الروسي في سوريا هو التعاطف مع بلوى ألوف النساء الروسيات اللواتي تزوجن ضباطًا سوريين، معظمهم علويون كانوا يتدربون ويدرسون في الكليات العسكرية الروسية. وكانت الأسرة الروسية تعاني عذاب الانتقال من الاقتصاد الماركسي إلى الاقتصاد الرأسمالي، الأمر الذي شجع فتياتها على الزواج من علويين يغدق عليهم نظامهم المال الوفير.
شهدت ثلاث حروب عربية - إسرائيلية. عرفت بحكم عملي كيف دمر الطيران الإسرائيلي الطيران المصري والسوري وهو جاثم على الأرض في حرب النكسة. ثم شاهدت على الجبهة السورية صاروخ «سام - 6» الروسي وهو يدمر الطيران الإسرائيلي، وهو في الجو في حرب أكتوبر (تشرين الأول). ورأيت «قواويش» مستشفى وسجن المزة العسكري تغص بالأسرى الإسرائيليين. وأطباء سوريين يجرون عمليات جراحية دقيقة للجرحى الإسرائيليين.
وهكذا، فالتدخل العسكري الروسي يجثم على أرض محافظة اللاذقية التي تغص بالعلويين وزوجاتهم الروسيات، بعد هجرة أغلبية سكان مدن الساحل من السنة. ولو كان سبب التدخل حقًا لمقاتلة «داعش»، كما يزعم بوتين ووزير خارجيته، لكان العرف العسكري يفرض المرابطة في منطقة سورية أو عراقية أقرب إلى الميليشيا «الداعشية» التي تجثم على أرض واسعة في شرق سوريا وشمالها.
ربما أدرك بشار بعد فوات الأوان أن إشعال حرب أهلية سوف يغري بالتدخل الخارجي. وهو مضطر للانحناء بلا عمود فقري، في الترحيب بالمتدخلين. غلطة الشاطر بألف، كما يقول المثل الشعبي. الوزير وليد المعلم وصف إقامة جيب تركي إنساني للنازحين بأنها اعتداء على السيادة. والكيان، فيما هو يرحب الآن بالتدخل العسكري الروسي.
قد يكون مفهومًا تمرير إيران للسندباد بوتين بأجوائها. لكن ليس مفهومًا في منطق العروبة وعلاقة الأشقاء بالأشقاء، أن يوصل العراقي حيدر العبادي حصان طروادة الروسي إلى الداخل السوري.
أميركا أوباما التي اكتشفت أقمارها الصناعية السجاد الإيراني الممدود في سوريا لتطأه الدبابات الروسية، لم تطالب بوتين بالحصول على إذن مجلس الأمن الدولي. بشار في سذاجته السياسية كشف علنًا الغرض الروسي. فقال إن هدف الحوار تقديم مكافحة إرهاب «داعش»، على الاتفاق بين الحكومة والمعارضة على المصالحة التي قد تنتهي بترحيله. فكافأه جون كيري بإجلاسه على مائدة الحوار مع المعارضة. فكيف تستطيع دبلوماسية كيري غدًا ترحيل نظام قد يتوصل إلى تسوية مع المعارضات المسلحة. والمستأنسة بالنظام في الداخل. والسياحية في الخارج.
عيد الأضحى على الأبواب. عيد بأية حال عدت يا عيد؟ سلام إلى روح عبد المطلب الأمين. يكفي أنه لا يسمع في عليائه زغاريد العلويين والشيعة في دمشق، المغردين لذلهم في السكوت عن أطماع روسيا في سوريا.