«مصر التي في خاطري» هي مصر دائما التي في قلبي. وفكري، كما عرفتها مسؤولا في الصحيفة التي أصدرها جمال عبد الناصر في سوريا. ثم كنت الصحافي السوري الوحيد في إعلام مصر الخارجي، في ذروة صدام مصر مع نظام الانفصال الذي دمر الوحدة. ثم سلم سوريا إلى النظام الطائفي العلوي الحليف لإيران.
لم تنسني مصر في منفاي الأوروبي. فقد تلقيت دعوة من المؤسسة الرئاسية إلى الكتابة في «أخبار اليوم» الصحيفة الأسبوعية التي أحببت. وصلت متأخرا. كان نظام مبارك قد أطال الإقامة. فلم تعد تنفع كتابة في إنقاذه من خصومه.
لكني ما زلت مقدرا للرجل. فهو الذي أنقذ الدولة بعد اغتيال السادات. ثم استعاد عروبة مصر، مصالحا عرب الخليج. معترفا بدور الدولة الخليجية في الحياة السياسية العربية. قضى مبارك على العنف الديني، من دون المس بحرمة الدين. وصبر على «الإخوان» في البرلمان. ولم يصل بهم إلى المشاركة في النظام.
لم تشغلني هموم المشرق العربي وأزماته، عن متابعة أزمة مصر مع «نظام الإخوان». وها أنا اليوم أعاود الكتابة عن مصر، بعدما باتت واضحة ومستقرة، «ثلاثية» نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي: «الأمن. التنمية. و.. الحرية».
هل أفلت العنف الديني من قبضة أمن النظام؟! ليس كذلك. إنما لكون الدولة الطرف الثابت. والصامد، فهي التي تتلقى ضربات مطرقة الإرهاب الأقدر منها على الكر والفر. والاختفاء. لكن في النهاية، سوف تتغلب الدولة، ما دام المجتمع المدني يقف إلى جانبها. بل يقاتل معها.
مصر ليست سوريا. ولا حتى العراق. مصر كتلة سكانية ضخمة. متماسكة. جيشها يفتخر بوطنيته. وبحب الشعب له. في مواجهة العنف والإرهاب، انتصرت دائما الأنظمة الملكية والجمهورية على عنف الإخوان، وإرهاب التنظيمات الدينية المتزمتة الخارجة من رحمهم.
يخطئ شباب مصر وشرائحها المثقفة في موقفهم السلبي من المؤسسة العسكرية. هذه المؤسسة كانت وما زالت المؤسسة المصرية الوحيدة التي صمدت في الظروف الاستثنائية. الواجب الوطني فرض على السيسي والمجلس العسكري التقدم لحماية الدولة. والمجتمع المدني بما فيه الشباب، بعدما ظهر واضحا تنكر النظام الإخواني لوعوده باحترام ديمقراطية التناوب على السلطة.
هناك أكاذيب وأضاليل كثيرة في الصحافة الدولية، وخصوصا الأميركية عن «ديمقراطية» النظام الإخواني. الجميع في مصر يعرف الحقائق. يعرف كيف خطف الإخوان الانتفاضة. ثم الحكومة. وانتخابات السلطة التشريعية. ثم سلق دستورا إخوانيا، وسط رفض الأحزاب والتيارات الليبرالية والأقباط المشاركة في إعداده. وكيف أصدر الرئيس محمد مرسي وثيقة دستورية تمنحه الحصانة من المحاسبة عن الفشل. والأخطاء. والصدام مع الشارع الشعبي المحتج على الغدر به.
لماذا ساهم الشارع الشعبي والمجتمع المدني، مع المؤسسة العسكرية، في إزاحة نظام الإخوان؟ لأن عفوية الإيمان الديني لم تمنع من كشف خداع نظام يتمسح بالقداسة الدينية، للتمسك بالسلطة. لكن زخم الاندفاع الشعبي يجب تأطيره في تنظيم حزبي شعبي للنظام، كي لا يبقى أسير الثكنة. ولكي لا يكون مصيره كمصير الناصرية اللاحزبية.
ولعل الواجب الإعلامي يفرض على نظام بلا آيديولوجيا، أن يقدم شرحا وافيا لجمهوره للمفردات السياسية الحداثية: الحوار السلمي. المساواة والتسوية في اللعبة الديمقراطية. قبول الرأي والموقف الآخر. المجتمع المدني. مبدأ فصل السلطات. المشاركة. ماهية المعارضة. صناعة القرار.. لحمايته من الخداع السياسي في أزمات الصراع على السلطة.
في حرص الرئيس السيسي على حماية المستقبل والحاضر من ترّهات الماضي السياسي، يميل إلى التناسي والإصلاح بالتدريج. لكن مع ضبط صارم للإدارة المدنية (قانون لإصلاحها). وللمجتمع المدني من الانحراف نحو الفوضى. وتعطيل الحياة اليومية والاقتصادية. بدا هذا الحرص في «قانون الإرهاب» الذي ضغط حرية التظاهر. والاحتجاج السلمي. والتعبير.
كان الصدام مع الصحافة بديهيا. النظام يريد حماية معنويات المجتمع من مجازر الإرهاب والعنف التي تعاني منها المؤسسة العسكرية. والصحافة تتمسك بحقها في أن لا تكون مجرد ناطق رسمي أو بيان عسكري مختصر. نجحت الصحافة في حماية نفسها من السجن. لكن أي صحافي يستطيع دفع غرامة تصل إلى عشرات ألوف الجنيهات؟ تحاشيًا لهذا الصدام المؤسف، يجب على النظام العربي مشاركة الصحافة في سن القوانين التي تتعلق بحرية الإعلام. والمعرفة التامة بصناعة الصحافة للخبر غير الرسمي الذي لا غنى للإعلام عنه.
قد تبدو هناك مبالغة في اتهام الإخوان بالإرهاب. لا بد من تقديم أدلة ومستمسكات مقنعة للجمهور وللقضاء. نعم، أدى حشد عواجيز الإخوان في المعتقلات، إلى نشوء قيادات شبابية أكثر تزمتا. وميلا للعنف. أو للمشاركة فيه.
ولعل الإسراع في إجراء الانتخابات التشريعية، يجدد الحراك السياسي والحزبي، ليتحمل واجبه في حماية الدستور المعدّل. وينفي الشبهة عن النظام في الرغبة بتأجيل الانتخابات، للاحتفاظ بسلطة التشريع وسن القوانين. لكن ضراوة الصدام مع العنف والمجازر المرتكبة، من دون ظهور مشروع حل في الأفق، أصاب الطبقة السياسية بالحيرة والجمود. وعدم الرغبة في التورط.
استقال الاشتراكي محمد البرادعي من منصب نائب رئيس الجمهورية. وغادر البلد معتزلا. يقف عمرو موسى مشدوها إزاء ما يجري. الناصري حمدين صباحي نادم على مناصرته الإخوان. ومتحفظ إزاء سلطة المؤسسة العسكرية. الإخواني المستقيل عبد المنعم أبو الفتوح متردد في خوض الانتخابات. حزب الوفد يعاني من الانقسام..
نظام السيسي أكثر حظا من النظام الناصري في تجربته التنموية. هناك 23 مليار دولار خليجي مستثمرة في مصر السيسي كقروض. وهبات. ومنح. واستثمارات في القطاعين العام والخاص. ردت مصر إلى قطر ستة مليارات دولار قدمت لتمويل نظام الشيخ مرسي. ولم تعد مصر بحاجة لشد حزام التقشف، من أجل الحصول على قروض من الصناديق والمصارف الدولية المدعومة أميركيا.
كان الإنجاز التقني المصري رائعا في هندسة القناة الجديدة خلال عام واحد. هل ينجح النظام في استصلاح 1.5 مليون فدان في عام آخر؟ وتوصيل مياه النيل إلى سيناء، لتنفيذ تنمية شبه الجزيرة المتمردة ربما بمال خليجي؟ توصلا للقضاء على الإهمال. وجذور الإرهاب؟
أين مصر من عالمها العربي؟ لا بد لأميركا. وقطر. والإخوان. وتنظيمات الإرهاب، وعي مسؤولية تعطيل مصر عن أداء دورها القومي العربي. نعم، انتقل مركز الثقل السياسي والمادي إلى الخليج. وتقدمت السعودية والإمارات لحماية عروبة اليمن من التسلل الإيراني. ونجحتا في ذلك، فيما تتجمع القوات اليمنية والعربية لتحرير صنعاء من الحوثية، لكن الدولة الخليجية تبقى بحاجة إلى دولة الكثافة البشرية المصرية. لم تقصر مصر السيسي. كانت صاحبة المبادرة إلى الدعوة لإنشاء قوة عسكرية عربية رادعة للتدخل الخاطف ضد الإرهاب وغيره، تماما كما تفعل اليوم حرب أوباما ضد داعش.
مصر تخسر نفوذها. ودورها القومي. واستقرارها، إذا ما تقوقعت في صحرائها. أدرك ذلك عمرو بن العاص عبقري الاستراتيجية العربية منذ أكثر من 1400 سنة. ماذا لو لم يقنع الداهية عمرو الخلفاء الراشدين بأهمية فتح وتعريب مصر والمغرب الكبير؟ ماذا لو كان العرب اليوم في مواجهة إيران وإسرائيل، من دون مصر؟!