مُنَح الصلح عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا

مُنَح الصلح: عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا

مُنَح الصلح: عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا

 عمان اليوم -

مُنَح الصلح عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا

غسان الإمام

بين انطفائه الفكري ووفاته خمس عشرة سنة. هي السنوات الأخيرة من عمره. ما أصعب أن يكتب الكاتب من دون أن يقول! وكأني بمنح الصلح قد قال كل ما عنده في حياته المديدة التي اقتربت من التسعين. ولم يبق لديه ما يقول، بعد انكسار المشروع القومي العربي، وطغيان هذا الطفح المقيت على السطح، من طحالب وأوشاب الطائفية المسيَّسة لدى السنة والشيعة.

وعى منح الصلح السياسة باكرا. فانخرط فيها بلا طربوش الأسرة الصلحية. وظل حاضرا. متوهجا في الأندية الثقافية. ولدى الأحزاب القومية، من دون أن ينضم إليها. بل كان موجودا في الشارع الشعبي لدى عامة الناس، على الرغم من أن ثقافته سمت به إلى رتبة مفكر قومي، أتى بلغة جديدة يتميز بها. ونحت مفردات سياسية تحولت إلى رموز وشعارات. كل ذلك مع نقد شفهي ساخر. وربما جارح للسياسات وللأشخاص. لكن في الكتابة الجادة كان منح عفيفا. مهذبا مع الجميع، قوميين وغير قوميين. وكان يملك طاقة فذة على الشرح. والتفسير. والتحليل. وإبداء الرأي. والدفاع عن موقف. وباختصار، كان قادرا على أن يكتب ويقول.

الأسرة الصلحية تاريخ مجيد في لبنان والمحيط العربي. نالت مجدا. ودفعت ثمنا كأي أسرة سياسية. فقد اغتيل عميدها رياض الصلح خلال زيارة للأردن (1951). كان رياض مؤمنا بالوحدة القومية بين سوريا ولبنان. وتزوج سورية، شأنه في ذلك شأن معظم ساسة وزعماء الأرستقراطية والبورجوازية السنية في لبنان. وكان عضوا في وفد «الكتلة الوطنية» السورية المفاوض لفرنسا على الاستقلال في عام 1936.

تأخر رياض وتردد كثيرا في قبول «تنظير» هذه الأرستقراطية، بإمكان قيام تفاهم سني/ ماروني في لبنان، على الاستقلال عن فرنسا (الأم الحنون). وبالانفصال عن الوحدة مع سوريا. وعندما اقتنع، حسم أمره. نزل إلى دمشق في أوائل الأربعينات. التقى زعماء الكتلة آنذاك (جميل مردم. سعد الله الجابري. شكري القوتلي...). وأقنعهم بما يملك من حجة وقوة إقناع، بقبول لبنان عروبي. مستقل، على ألا يكون معبرا أو مقرا للاستعمار.

كان القبول السوري آليا، خاصة أن فرنسا حلت برلمانين سوريين (1928 و1932) أصرا في الدستور على الوحدة مع لبنان. لكن التفاهم الثنائي جرى بلا مزايدات وتعقيدات. وبروح ديمقراطية لدى الطبقة السنية السياسية في البلدين. فأين لبنان وسوريا اليوم من الوعي السابق؟ وأين مليونا لاجئ سوري إلى لبنان، من احترام أدب الضيافة الذي استقبلهم به اللبنانيون؟!

أعود إلى منح. فأقول عرفته بالمصادفة كوني جارا له في مدينته الدولية (الكوزموبوليتانية) في رأس بيروت. ولم تكن تربطني به سوى تحية باردة، كقلب شارع المصارف. شارع عبد العزيز الموازي لشارع الحمرا، حيث كنا نقيم.

كان منح عاشقا لرومانسية «مدينة» رأس بيروت التي تختلف كليا عن بيروت الغربية (السنية) التي تحتضنها. وفي الجامعة الأميركية درس. وحصل على ماجستير في التاريخ والأدب العربي. لكن معرفته بأوساط الطلبة العرب واللبنانيين. وثقافته. وأفكاره كانت أعمق وأوسع بكثير مما توفره شهادة ماجستير في اختصاص محدد.

وكان منح يملك من الجرأة. والدقة. والأمانة، ما يكفي للاعتراف بأن أساتذة الجامعة الأميركية كانوا يتعاطفون بصدق مع العروبة وأحزابها. ومع «الشعوب العربية» الراغبة في التحرر من بريطانيا وفرنسا. وبدا منحازا لهذه الجامعة، في صراعها الأكاديمي مع الجامعات المسيحية المارونية التي تبنت صرامة الفرنكفونية السياسية، لتخريج إداريي السلطة والدولة في زمن الاحتلال الفرنسي، فيما اهتمت الأميركية الليبرالية، في تخريج مثقفين. وأطباء. ومحامين. وخبراء الاقتصاد في القطاع الخاص.

عادت المصادفة لتجمعني بمنح الصلح. كان ذلك خلال مسؤوليتي عن تحرير مجلة «الحوادث» اللبنانية المهاجرة إلى لندن (1983). زارني في مكتبي باعتباره كاتب الافتتاحية في المجلة. ثم جاءتني ناشرة المجلة أرملة الراحل سليم اللوزي، لتقول لي إن منح الذي لا يعجبه العجب امتدحك. وأثنى على اختيارك لإدارة تحرير المجلة، في مرحلة صعبة.

شكرت منح. كنت أنا أيضا أعيش المرحلة الصعبة. مرحلة «العصر الإسرائيلي» المحتل للبنان آنذاك. فقد اشتدت الحملة المارونية الإعلامية والسياسية عليّ، بتهمة «مبالغتي» في الحملة على إسرائيل في باريس. ولكوني «سوريًا» خطف «الحوادث» اللبنانية في لندن!

غادرت «الحوادث» أيضا. خفت أن تموت مجلة سليم اللوزي وأنا مسؤول عن تحريرها. فقد منعتني أرملته من تجديد أبوابها. نصحتها ببيعها عندما أبلغتني أن مستشارها الإعلامي والمالي هو... أشرف مروان! وبالفعل، فقد عملت الأرملة بالنصيحة. لن أسترسل في الحديث عن حياتي الصحافية. المهم أني انتهزت بقاء منح الصلح في لندن، لإجراء فحوص وتحاليل طبية، فعقدت معه سلسلة لقاءات سريعة، لم يتح لي نشر مضمونها إلا باختصار شديد الآن، مع تعليق سريع عليها.

شغلت هموم لبنان والعالم العربي المفكر المثقف منح الصلح. وخلال إقامته القصيرة في باريس، اهتم بهجوم المفكر المغربي الإسلامي علال الفاسي، على البورقيبية التونسية المتوسطية، معتبرا إياها عقبة في طريق مغرب عربي/ إسلامي. أختلف هنا قليلا مع منح. فعلال الفاسي لم يكن واضحا بخصوص الخلافة الإسلامية. وكان مغلبا لإسلاميته على عروبته. لكنه كان على حق في التخوف من البورقيبية التي تعود اليوم لتحتل مكان الصدارة السياسية في تونس/ الانتفاضة. وأخشى أن تعاود البورقيبية تجاهلها للعروبة، بالانتماء إلى فرنكوية متوسطية مهتمة بالالتحاق بأوروبا أولا وأخيرا.

عن لبنان، ينتقد منح العرب. فقد كان لبنان لديهم وسيلة لا غاية. «كان مطلوبا من لبنان أن يفنى في فلسطين»، فيما كان على العرب الاستجابة لحاجات لبنان المسيحي. وأجرى منح وعمه تقي الدين مساجلات مهمة مع الرئيس العماد فؤاد شهاب. وكان شهاب موفقا جدا في عقد «اتفاق جنتلمان» مع عبد الناصر. طرد شهاب السفير الإيراني لدى لبنان الذي شتم الزعيم المصري. ودام الوفاق الشهابي/ الناصري عشر سنوات، واستفاد عرفات منه في تأمين «استقلال» المقاومة في المخيمات الفلسطينية عن الأمن اللبناني!

اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، بعد انهيار هيمنة المخابرات اللبنانية (المكتب الثاني) على الديمقراطية اللبنانية في عهدي شهاب وشارل حلو (1958 - 1970). وكان منح في رؤيته شهابيا، بقدر ما كان ناصريا على طريقته. كان يرى في الناصرية بعدا إسلاميا محببا لكونه غير مسيّس. ويجد فيها بعدا قوميا شاملا للعالم العربي بكامله، منتقدا الجيل القومي الأول بقيادة الأسرة الهاشمية، لقصرها الدعوة للوحدة على سوريا والعراق فقط. وأحسب أن الأخ منح ظلم ذلك الجيل، فلم يكن متاحا أمامه للتحرك وللعمل الوحدوي سوى المشرق العربي، فيما كانت مصر سعد زغلول بعيدة عن مسؤوليتها القومية التي أفاقت عليها في الثورة الناصرية (1952). أما المغرب فكان غارقا كله في استعمار يفصله عن المشرق.

أدرك منح أهمية الخليج العربي بثقله المالي والسياسي، الأمر الذي لم يدركه مفكر عربي آخر مهم كهيكل. من هنا، كان اعتقاد منح أن اتفاق الطائف (1989) أعاد التوازن إلى ميثاق لبنان (السني/ المسيحي) بإصلاح الخلل في توزيع النسب الطائفية في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

أخيرا، يقترح منح نشر الثقافة بدلا من تسييس الآيديولوجيا، كحل عربي لمشكلة الاستبداد. ثم يصمت متحسرا. فالثقافة لم تتوفر. وملأت الفراغ الرغبة العنيدة في استخدام القوة. وتقدمت الفاشية الدينية لتحتكر الطائفة. ثم السلطة. ثم الدولة، في إيران وسوريا. وربما في لبنان. والعراق. واليمن.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مُنَح الصلح عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا مُنَح الصلح عروبة لبنان بلا وحدة مع سوريا



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 19:13 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 عمان اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 18:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 عمان اليوم - مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab