غسان الإمام
سوريا الخمسينات شجرة وارفة الظلال. حبلى بالآمال. كانت في السياسة موزعة على يمين ويسار. يمين ديمقراطي، يمثله نظام شكري القوتلي، على رؤوس بقايا هَرِمَة. متعبَة، من الجيل القومي العربي الأول الذي استنفد نشوته في تحقيق النصر على الاستعمار. وقعد متربعا على حكم تقليدي، منذ أواسط الأربعينات. لكن بلا أفكار جديدة.
وجيل سوري آخر على اليسار. جيل استهوته الآيديولوجيا. أقليته ماركسية ستالينية. يقودها خالد بكداش. زعيم تاريخي أوحد. كردي مستعرب. فصيح في خطابه الشعبوي. ماهر ومجرِّب في دروب السياسة. وتُفْحِمُ نيابته البرلمانية ساسة اليمين واليسار، مستعينا بالأرقام الدقيقة عن بطء الإنجاز الحكومي.
لكن أغلبية هذا الجيل السوري الجديد كانت، في الآيديولوجيا، قومية الهوى. مبهورة بشعارها (وحدة. حرية. اشتراكية). ويقودها حزب جديد (البعث). نَحَتَ الشعار مثقفو الحزب الدارسون في أوروبا. ولقنوه، في حوار ديمقراطي حر، لشباب الجامعة والثانويات الذين استهوتهم لعبة السياسة.
في زخم هذه الحياة السياسية الصاخبة، أقدم أكرم الحوراني على إجراء تغيير محوري في حركة حزب البعث، بعد اندماجه مع حزبه الاشتراكي، في النصف الأول من الخمسينات. كان هذا الزعيم المحرك اليومي المؤثر في السياسة السورية، منذ أوائل الأربعينات إلى منتصف الستينات، عندما اختفى تماما من اللوحة السياسية العربية، نتيجة للخطأ الفادح الذي ارتكبه.
لم يكن الحوراني مثقفا. لكنه كان شديد الإيمان بالاشتراكية، إلى حد تقديمها على مبدأ الوحدة القومية. كان الحوراني نزيه الذمة ماديا. كفؤا في التنظيم الحزبي. عدم براعته في الخطابة، لم يَنَلْ من إجادته المناورة السياسية والإعلامية. فقد كان مخلوقا سياسيا، يتنفس. ويدخن السياسة، على مدار الليل والنهار.
كتب الحوراني أهم مذكرات أصدرها سياسي عربي معاصر، لثرائها في التفاصيل. ونشرت «الشرق الأوسط» معظمها في التسعينات. ولعل القارئ يذكر أني تابعت التعليق عليها أسابيع طويلة. مع ذلك، فلم يورد الحوراني الداهية حرفا واحدا، عن دوره غير المباشر، في كارثة وصول عسكر الطائفة العلوية إلى حكم سوريا منذ منتصف الستينات إلى اليوم!
بحكم نفوذه في الجيش السوري، بعد سقوط ديكتاتورية صديقه/ عدوه أديب الشيشكلي (1954)، تمكن الحوراني من توظيف أعداد غفيرة، من الشباب العلويين، بعثيين وغير بعثيين، في خدمة الحزب، عبر دفعهم إلى الانخراط في الجيش.
ماذا كان هدف الحوراني والقيادة السياسية البعثية (ميشيل عفلق وصلاح البيطار) من عسكرة الطائفة العلوية؟ لم يكن الزعماء الثلاثة من هذه الطائفة. غير أني أكشف هنا سرا، فأقول إن الثلاثة ضاقوا ذرعا بمجتمع سوري محافظ. ووجدوا أن فرض اشتراكيتهم عليه، من خلال أقليتهم الحزبية البرلمانية، أمر يكاد يكون مستحيلا.
على عكس الدمشقيَّيْن عفلق والبيطار، فقد كان الحوراني من وسط سوريا (مدينة حماه)، حيث شعر بوطأة الإقطاع على الحياة الريفية التي شكل فيها العلويون فئة الفلاحين الفقراء آنذاك.
وإنصافا للرجل، أستطيع أن أقول إنه لم يكن ضد الديمقراطية كليا. لكن بمنطق الزمن الطائفي الراهن، لم يدرك الحوراني، وهو من الطائفة السنية، بل مرتبط بالقرابة مع الأسر السنية الإقطاعية في حماه، أنه سيدمِّر الحياة الديمقراطية الوليدة، بعسكرة طائفة أقلوية صغيرة (8 بالمائة في تقديري الشخصي) متلهفة للتغيير. ولا تعترف طائفتا السنة والشيعة بمذهبها الديني.
لماذا غدر الضباط البعثيون العلويون بالحوراني. ثم بعفلق والبيطار؟ الواقع أن الرهان الطائفي العلوي كان، أصلا، على «الحزب السوري القومي» كذراعٍ للوصول إلى السلطة والحكم. ثم حوّلوا الرهان. فركبوا عربة حزب «البعث». كان «البعث» في عروبته أكثر قبولا لدى السوريين، من حزب تجاوز العروبة والإسلام. واعتنق مبادئ الفاشية الأوروبية التي سُحقت في الحرب العالمية الثانية.
انتهز ضباط البعث العلويون استقالة زعماء الحزب الثلاثة (الحوراني. البيطار. عفلق) من ناصرية نظام جمال عبد الناصر. فشكلوا خلية سرية باسم (اللجنة العسكرية). وكان الأعضاء الفاعلون فيها ضباطهم الثلاثة: اللواء محمد عمران. المقدم صلاح جديد. النقيب الطيار حافظ الأسد.
بادرت اللجنة العسكرية إلى الكيد للحوراني بمكر ظاهر. كانت التهمة أنه أيد نظام الانفصال اليميني الذي فصم الوحدة السورية/ المصرية بالانقلاب عليها (1961). عشت مع أكرم الحوراني الشهر الأخير في حياته السياسية. ظل يذرع بهو صحيفة «الشام» التي أعمل فيها. ولا يضيء ليله سوى بصيص سيجارته المعلقة دائما بشفته. وصدق حدسه. فقد تبع الانقلاب العراقي على نظام عبد الكريم قاسم، انقلاب سوري جاء بالضباط المستقلين. والناصريين. والبعثيين، معا إلى الحكم (1963).
مع الظهور العلني لضباط الطائفة العلوية على مسرح السياسة، فر أكرم الحوراني منهيا حياته السياسية. مع غياب الحوراني، راقت لعبة توظيف العسكر في السياسة، لزميليه اللدودين. فقد سارع عفلق إلى إضفاء الشرعية «البعثية» على اللجنة العسكرية العلوية، بعدما قرر هو استيلاء الحزب على السلطة والحكم في سوريا. بل اعتبر صلاح جديد ابنه «الروحي»!
أما البيطار الذي كان قد استقال سرا من الحزب، فقد راهن على اللواء العلوي الليبرالي محمد عمران. علوية عمران لم تغفر لليبراليته. فقد اغتيل في عصر الأسد الأب. أين؟ آه! في الجيب السكاني العلوي في أعالي مدينة طرابلس السنية اللبنانية. وأما عفلق فقد فر ملاحقا بحكم إعدام «أنعم» به حافظ الأسد على مؤسس البعث ومفكره الرومانسي، فيما يحتفل هو بتنصيب نفسه محله قائدا للبعث، ورئيسا لسوريا!
عرف صلاح جديد كيف يصل مدمرا الخصوم والأصدقاء والرفاق في طريقه. لكنه لم يعرف كيف يحكم. وصل حافظ الأسد. حكم ثلاثين سنة. ثم ورَّثها لابنه. فأحرقها الوريث. وأحرق ودمر سوريا معها. دمر تسييس الجيش. وتخريبه. و«تطييفه» بلدي سوريا.
كنت أود تذكير شباب الانتفاضات والثورات العربية، بعدم السماح للأنظمة الجمهورية الجديدة «بأخونة» الجيش. فلا ديمقراطية حقيقية بتحزيب المؤسسات العسكرية والأمنية. سبقني الديك الروسي في قمة آيرلندا. فقد أقنع دجاجات أميركا وأوروبا، بإدراج نصيحته الغالية في بيان القمة، بدعوة السوريين إلى الاحتفاظ بضباط الطائفة والحزب، لمواصلة القتل والتدمير في سوريا!
مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة (1970)، أحكم ضباط الطائفة العلوية احتلال الحكم والسلطة. أين كان السوريون؟ كانوا مغيَّبين عن الوعي! فقد أدار ضباط الطائفة عملية الوصول «باسم الشعب»! لكن بحجب الحقائق عنه. كنت بحكم عملي أحد القلَّة من الشهود المستقلين. ولم أكن أدري أني سأروي يوما رواية أمينة تختلف عن الروايات الحزبية، لبعض ما حدث للسوريين خلال غيبتهم عن الوعي.
لكن كيف حكم حافظ الأسد؟ كيف أدار معركته مع «الإخوان»؟ لماذا اغتيل صلاح البيطار؟ ماذا حدث لعفلق القابع في قفص صدّام الذهبي. لماذا حدثت مجزرة حماه؟ كيف ورط ضباط الطائفة عبد الناصر في حرب النكسة؟ لعل العمر يسمح بالكلام. بعدما عجزنا نحن القلَّة التي عرفت، عن الكلام وهي في سن الشباب.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط