حازم صاغية
في أغلبيّة كاسحة من بلدان «العالم الثالث»، تطوّر نمط من الأدبيّات السياسيّة يساوي بين «الوطن»، كمعنى ووظيفة، وعمليّة الاستقلال والتحرّر من الاستعمار. وربّما قدّمت الجزائر، بلد «المليون شهيد»، أبرز تعابير هذا النمط الذي انتهت بلدانه في عهدة أنظمة ديكتاتوريّة أقامها أبطال النضال الاستقلاليّ إيّاهم.
أمّا لبنان ما قبل حربه في 1975، فنسّبه مثقّفوه إلى تلك الفئة الأقلّيّة التي شملت بلداناً كالسنغال في عهد ليوبولد سنغور، وتونس في عهد الحبيب بورقيبة. فهنا، وإلى الاحتفال بالاستقلال ومحاولة تدويره بما يمتّن الاجتماع الوطنيّ الهشّ، استُبعد النظر إليه كقطيعة مطلقة وتأسيس كامل ومعنى أوحد للذات والهويّة.
وبدل فولكلور الدم والشهادة لدى دول الأكثريّة، شاع فولكلور يخترع المواضي ويستلهم الطبيعة، غير متعفّف عن محاولة الربط بين «الوطن» والمنافع والوظائف الاقتصاديّة والثقافيّة، إذ الأوطان، أيضاً، وفي استعارات متفاوتة، «جسر» و «كنز» و «حَرف» و «مصرف» و «سياحة» و «فندق». وبدل الملحميّة والعظمة اللتين يستنطقهما التحرّر الوطنيّ في دول الأغلبيّة، طُوّرت عظمة هي باروديا العظمة، تأثيرُ خدرها لا يتجاوز الدقيقتين.
وكان لبنان غالباً ما يُواجَه بتلك الضحكة البلهاء من «واقعيّين» حملوا على محمل الجدّ إعلان الرحبانيّين مجاورة القمر، أو التغزّل بطيّبي الذكر الفينيقيّين، فيما «الواقعيّة» تحضّ هؤلاء النقّاد على مطالب في حجم تحرير فلسطين وتوحيد العرب وإقامة قاعدة مادّيّة للإنتاج الصناعيّ. وأسوأ من ذلك أنّ صوت النقد هذا لم يتردّد في إطلاق الوضاعة والذلّ نعتاً للرغبة في الاستقرار الأمنيّ والازدهار الاقتصاديّ. ذاك أنّ الأبطال لا يليق بهم أقلّ من إتيان البطولة سلاحاً لا تضبطه حدود أو دولة، وقضيّةً يستحيل أن تتحقّق، واقتصاد كفاف تُواجه به خطط التجويع.
هذه «الثقافة» التي حاولت، في الستينات والسبعينات، أن تردع تعريف لبنان لذاته بحيث يقتصر على اشتباك حربيّ مع عدوّ أجنبيّ، وجدت في «حزب الله» مَن يرفعها إلى سويّة نوعيّة أعلى تجيز التحكّم الكامل بأمن الناس واقتصادهم. فـ «كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء» و «الموت لنا عادة»، وسواهما من معانٍ مماثلة لا تكتفي بافتراض المواطنين روبوتات مقاومة وقتل وقتال، بل تضفي على ذاك الافتراض طابعاً مقدّساً موصولاً بالغيب. وكم سيكون تافهاً ونذلاً من يفوّت هذه الدعوة المفتوحة إلى الموت ليدغدغ لبنانيّته العفنة القديمة، رغبةً في الاستقرار وطموحاً في الترقّي الاجتماعيّ أو تعليم الأبناء على نحو أفضل؟
بطبيعة الحال لا ينجح هذا النقد، في صيغتيه الستينيّة – السبعينيّة والراهنة، في إخفاء المنافع والمصالح التي يجنيها بيروقراطيّو النضال والجهاد من تعهيرهم المنافع والمصالح. وغنيّ عن القول إنّ أجواء التنظيمات المغلقة والسرّيّة التي لا تطاولها رقابة المجتمع، وإذا طاولتها أخافها السلاح من الجهر بالحقائق، هي للفساد فراديسه الزاهية.
بيد أنّ تعريض هذه «الثقافة» الكاذبة لأيّة شمس كافٍ لتبيان ما الذي يريده الناس حقّاً. وقبل يومين، وعلى رغم التشدّد في تصفية المرشّحين المشكوك بولائهم، اقترع الإيرانيّون لمصلحة النظريّة التي تقول إنّ البلد، أيّ بلد، أهمّ وأكبر من اختصاره في معركة أو ساحة أو مواجهة أو مقاومة. فهنا تقدّمت عناوين الكسر الديبلوماسيّ للحصار والانفتاح على العالم وانتظار الاستثمارات الخارجيّة على عناوين البقاء في المتراس أو الخندق أو القبر، فيما روائح الفساد تتسلّل حتّى إلى عظام الموتى.
وهذا، بدوره، كان تصويتاً إيرانيّاً للصيغة اللبنانيّة القديمة، بكلّ ما انطوت عليه من عوج وخرافة وتخلّف وفساد، ولكنْ أيضاً بكلّ ما انطوت عليه من حرّيّة. وهو تصويت سيكرّره أيّ شعب في المنطقة يتاح له أن يصوّت ضدّاً على إخضاعه للحظة تقديس نضاليّة تقسر الواقع والتاريخ.
فمبروك للإيرانيّين وهم يستمتعون ببدايات لبنانيّة ربّما كانت، بفضل إيران، تعيش نهاياتها في لبنان.