حازم صاغية
لا ينسى ذوو الإلفة مع تاريخ الحركات الشيوعية وسجالاتها، ذاك الضجيجَ الذي أحدثه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في 1956، حين قال بإمكان الطريقين السلمي البرلماني و«اللارأسمالي» إلى الاشتراكية، ذاك أن فرضية كهذه تستبطن أن جهاز الدولة قابل لأن يكون حيادياً حيال صراع الطبقات، وهو ما يناقض جوهرياً فكرة لينين عن الدولة كأداة في يد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. آنذاك كانت الصين الماوية رأس رمح الهجوم على عالم ما بعد ستالين السوفياتي وما رأت فيه من تفريط وانحراف.
بعد 17 سنة تجدد النقاش إياه، ففي 1973 حين أطاح انقلاب عسكري حكومة اشتراكية منتخبة ديموقراطياً في تشيلي، وجد الماويون وباقي نقاد الموقف السوفياتي ضالتهم وثأرهم: ألم نقل لكم إن الدولة جهاز طبقي منحاز لا يذعن بهذه السهولة لما يقرره البرلمان؟!
السجالان اللذان أعقبا 1956 و1973 ألّفا مكتبة ضخمة لم تقتصر أعمالها على التأويل النظري والتعقيب السياسي، فإلى ذلك عبّر السجالان عن السعي إلى فهم المحنة التي تطاول الشيوعيين وحلفاءهم وإلى استيعابها تمهيداً للرد عليها، فقبل أن يُلم بيساريي تشيلي «البرلمانيين» ما ألمَّ، كان عبد الناصر «اللارأسمالي» قد أعمل سيفه برقاب الشيوعيين المصريين والسوريين.
يُستشهد بتلك التجربة للمقارنة بالمحنة التي يعيشها راهناً «الإخوان المسلمون»، والتي بدأت تتعدى مصر وبعض البلدان العربية إلى... بريطانيا! مع ذلك لا يبدو أن ثمة ميلاً،لدى «الإخوان» للتفاعل مع محنتهم يفوق ما أبدوه في التفاعل مع محنهم السابقة والتعلم منها،
ففي الماضي لم تكفِ كتب المذكرات وكتب الهجاء والسب للحكام «الطواغيت»، ناهيك عن الأعمال المطولة التي «تفضح» المؤامرات الشيطانية على المسلمين، واليوم -وبالمعنى نفسه- لا يكفي الصمت المقرون بعدم الاستماع إلى ما يجري خارج البيئة «الإخوانية»، فالتوكيد على معارضة الحكم «الانقلابي» وعلى امتلاك الشرعية، مصحوباً بإبداء النيات السلمية المتعففة عن العنف، لا يزن شيئاً قياساً بما تزنه محنة «الإخوان» الراهنة، فأين النقاش لتجربتهم في السلطة في غير دولة، ولمدى صلاحية الأفكار التي رافقتهم ولا زالت ترافقهم، فعبدت لهم طريق الحكم السهل قبل أن تعبد لهم طريق المحكومية الصعبة. ألا يستحق القمع القاسي، قتلاً وسجناً ومصادرة للأموال، تناولاً معمقاً لكيفية فهمهم السياسة وللتحديات المطروحة على فهمهم هذا؟ ألن تظهر أصوات «إخوانية» تراجع تجاربهم مع ثورات «الربيع العربي» وترسم الخطوط الفاصلة بينهم وبين القوى الإسلامية الأشد راديكالية؟
وهذا مطلب مُلح ليس فقط لأن «الإخوان المسلمين» طرف فاعل وبارز في شؤون المنطقة ووجهتها، بل أيضاً لأن ترك السياسة محكومة بثنائية الاستبداد العسكري والإرهاب التكفيري خطر على الجميع. وكم كانت الحمولة الرمزية مثقلة بالدلالات حين تزامن إعلان الفوز «الكاسح» لعبد العزيز بوتفليقة رئيساً جزائرياً للمرة الرابعة وشن الإرهابيين الجهاديين هجوماً في تيزي أوزو أودى بأحد عشر جندياً وأصاب آخرين؟
لكن الجسم «الإخواني»، على عكس الجسم الشيوعي ما بين 1956 و1973، لا يناقش تجاربه بما قد يجنبه المحن، ولا يسمع ما يقال، لأنه ممتلئ بقوله العتيق عتق الحرفة البائدة في زمن صناعي. إنه أبكم وأصم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داوود؟