حازم صاغية
هناك فائض ليبراليّ يجتاح منطقتنا. فـ «الليبراليّون العرب» يتحكّمون بسلطاتنا التنفيذيّة والتشريعيّة. يقودون الجيوش، ويقرّرون مناهج التعليم، ويحاصرون المؤمنين في مساجدهم، ويدهم هي الأعلى في الإعلام بأصنافه.
الاستبداد الذي تمارسه قوى الحرّيّة والفرديّة والعلمانيّة والمواطَنة ينبغي التحوّط منه! ولأن «النصيحة بجَمل»، يحذّرنا بعض الذين درسوا ثمّ عملوا في بلدان «ليبراليّة» من أن تلقي بنا الأقدار إلى حيث ألقت بهم.
انطباعٌ كهذا يخرج به متابع الانتقادات الحادّة الموجّهة إلى «الليبراليّين العرب». وإمعاناً في التشويه، يغيب التمييز (الأميركيّ المنشأ) بين «الليبراليّ»، المشوب بيساريّة ما، و «النيو ليبراليّ»، ليحضر ضعفُ التمييز (الفرنسيّ المنشأ) الذي يرسم الليبراليّ داعيةً متعبّداً للسوق، فكأنّنا حيال أخذ الداروينيّة بجريرة الداروينيّة الاجتماعيّة.
والنقّاد عابرون للجغرافيا، إحدى منصّات قصفهم في الولايات المتّحدة، وعابرون للتاريخ أيضاً، أبرزُهم تناول «ظهور الخطاب الأوروبيّ الليبراليّ حول الديموقراطيّة والمواطنة والحريّة السياسيّة»، فرأى الإسلام «مُتضمَّناً في هذه المقولات من بدايتها، بحيث يستطيع المرء أن يجادل بأنّ هذه المقولات نفسها مقولات استشراقيّة...». وهم يمتدّون من خطباء المساجد إلى مهرّجي الفايسبوك، ناسبين إلى «الليبراليّين العرب» فعاليّة هائلة في تدمير العقول، ولكنْ أيضاً، هامشيّةً استثنائيّة تعزلهم عن الشعب والإسلام والأمّة.
وتهبّ الكتب والمقالات والأهاجي من «اليمين» و «اليسار» وما بينهما، ومن داري الإسلام والحرب. وهي حرب بلا أسلحة محظّرة، يجوز فيها استخدام الدين والقوميّة والماركسيّة والفاشيّة والفوضويّة وما تيسّر، وتحويلها رزمة نار واحدة تُرمى على... «الليبراليّين العرب». أمّا الأخيرون فكيهود بولندا، كلّما نقص عددهم زاد التحذير من خطرهم!
والحقّ أنّه لا توجد «ليبراليّة عربيّة» أصلاً. وقد سبق أن قيل بسخرية إنّ هذه الليبراليّة يقتصر تجسيدها على باسم يوسف. صحيحٌ أنّ بعض من يُسمّون ليبراليّين عاملون في الكتابة والفنّ يدفعهم الخوف من التكفيريّين للاحتماء بأجهزة السلطة، وصولاً إلى مديح سلطان أو ضابط. وصحيحٌ أيضاً أنّ بعضهم قادهم البَرم بالدعوات المصيريّة والنضاليّة إلى الاكتفاء بخطاب الأنظمة الهزيل والمبعثر بوصفه الأداة الجاهزة لتجنّب المتاعب وصخب الوعود الكاذبة. لكنّ مجرّد الاحتماء بسلطة، أو التماهي مع خطابها، ينزعان عن صاحبهما نعت الليبراليّة. والأهمّ أنّ الأخيرة، وسائر الأيديولوجيّات الحديثة، لا تعدو كونها، في العالم العربيّ، مزاجاً شخصيّاً لا يرقى إلى خطّ أو برنامج للتطبيق. ذاك أنّ جدول الأعمال في منطقتنا تستنفده مسألة سابقة على الليبراليّة، هي تشكيل الدول والأوطان نفسها، والاستقرار على درجة من الإجماعات لا تتأسّس من دونها حياة سياسيّة، يساريّةً كانت أم يمينيّة، بل تغدو الحياة ذاتها موضوعاً مشكوكاً فيه.
فلماذا إذاً هذه الهجمة؟
قبل عقد ونصف العقد، فسّر مثقّفون غربيّون الحملة اليساريّة الفرنسيّة على الليبراليّة بأزمة النقّاد أنفسهم. ذاك أنّه لم يعد معقولاً، وكان قد انقضى عقد على انهيار الاتّحاد السوفياتيّ ودزينة من دول تشبهه، أن يطلب اليساريّ قيام ديكتاتوريّة البروليتاريا أو تأميم الملكيّة العامّة لوسائل الإنتاج بالمعنى الذي عرفته الأنظمة المتداعية. وبفعل انعدام النموذج والفشل في تطوير لغة وموقف متماسكين، تولّى هجاءُ الليبراليّة سدّ الفراغ الذي خلّفه غياب الطرح الإيجابيّ.
وهذا تأويلٌ يصحّ عندنا أيضاً، مع فارق مفاده أنّ هزال ليبراليّتنا يجعل نقّادها أشدّ كاريكاتوريّة من نقّادها الغربيّين. فأيّ دعوة اليوم تحظى بالتماسك الذي يشجّع على عرضها في سوق الأفكار؟ القوميّة والفاشيّة في ظلّ التفتّت الهائل للمجتمعات؟ الإسلام السياسيّ في ظلّ «داعش» و «النصرة»؟ اليسار الذي لا يُذكر إلاّ مسبوقاً بكلمة «أزمة»؟ أم تحرير فلسطين؟ هكذا يغدو الحلُّ السهل تعريفَ الذات سلباً، عبر شتم الليبراليّة بألسنة بلاستيكيّة.
لكنّ عاملاً آخر يقيم وراء زكام الشتم هذا. فاستسهاله جزء من استسهال أكبر يطال التجرّؤ الراهن على قيم التقدّم والتنوير ممّا ينتجه عجزنا المتراكم عن الإقلاع باتّجاهها. وقد جاء المآل الذي آلت إليه الثورات العربيّة، بوصفها آخر محاولات العلاج، ليفاقم العجز ويضاعف، من ثمّ، شتمَ... الليبراليّة!
والأمر، في آخر المطاف، هو ممّا تسمّيه العاميّة «زعبرة»، والفصحى نفاقاً.