فايسبوك أحمد بيضون

فايسبوك أحمد بيضون

فايسبوك أحمد بيضون

 عمان اليوم -

فايسبوك أحمد بيضون

حازم صاغية

منذ أن غادرت الفايسبوك أسوار جامعة هارفرد، والكتابات والتحليلات، الأميركيّة والأوروبيّة، تتناولها بالنقد والمراجعة. فهناك من يأخذ عليها كونها أداة انتهاك لخصوصيّة الأفراد، ومن يباركها لأنّها تمنح الفرد تعبيراً عن فرديّته لم يكن متاحاً من قبل. وقد ظهر من يقول إنّ الفايسبوك تضيف إلى أشكال التوصيل المعرفيّ والإبداعيّ شكلاً جديداً، فيما وُجدت، في المقابل، شركات إعلانيّة ترى ضمناً غير ذلك، فتعتمد لإعلانها عنواناً يقول: «اقرأ أقلّ واعرف أكثر». ولئن تحدّث بعض ناشطي الثورات عن الفايسبوك بما يذكّر بكلام الثوريّين الأوائل عن الحزب والتنظيم، نشأ تعبير «جهاديّي الفايسبوك» الذين سخر منهم شيخ سلفيّ مقيم في الولايات المتّحدة اسمه ياسين خالد، فرأى أنّهم يحجّون إلى الفايسبوك وهم لم يحجّوا بعد إلى مكّة. وإذا بدا ممكناً قول فيلسوف كبير، قبل قرنين، «إنّ مطالعة الصحيفة اليوميّة غدت صلاة الصباح للإنسان العصريّ»، فمع الفايسبوك يغدو تعبير «مطالعة» تعبيراً مستغرباً، إن لم يكن مستهجناً، ومثله يبدو تبويب أوقات النهار وحصرها بوظائف معيّنة.

وفي غابة كهذه من اختلاط المعاني والدلالات، يضاف أمر آخر يسري علينا كما يسري على غيرنا: كيف يُكتب في الفايسبوك؟ كيف تُميَّز الكتابة الفايسبوكيّة عن كلامنا الشفويّ المعهود وكيف تُميَّز، في المقابل، عن كتابة الكتاب أو الكتابة للصحيفة؟ وتالياً، من هو الجمهور المتلقّي الذي يغاير جمهور الجريدة أو الكتاب غيرَ المشروط بوجوه وملامح وأسماء؟ وأين يستقلّ، مثلاً لا حصراً، التلييك والتشيير بذاتهما عن العلاقات الشخصيّة والقناعات السياسيّة بما يرفعهما قليلاً أو كثيراً في سلّم الموضوعيّة؟

يُخيّل إليّ أنّ أحمد بيضون الذي لامس بعض هذه الأسئلة وسواها في دفتره الأوّل، ترك هذه الآلة الجديدة تفكّر وظيفتها، مختاراً أن يجيب بطريقة خاصّة جدّاً. وطريقته هذه مفادها منح الأولويّة للكتابة والكتابيّة بعد تركيزهما على ما سماه «فنّ الخاطرة». فأحمد كمثل عاشق عشيقته الكتابة، والحبيب لا يهمّه المكان الذي يلتقي فيه الحبيبة، ولا تعريف ذاك المكان وتفاصيله، بقدر ما يهمّه أن يلتقيها فيه، فكأنّه يطبّق قولة دينغ هسياو بنغ الشهيرة «ليس المهمّ لون القطّة، بل المهمّ أن تصطاد الفئران». ففي هذه الغرفة تُمارَس كتابة البحث، وفي تلك كتابة المقالة، أمّا في غرفة الفايسبوك تحديداً، فتُكتب الخاطرة التي قد يعنّ لها مرّاتٍ أن تتاخم المقالة أو تجاور البحث، كما يمكنها مرّاتٍ أخرى أن تسخر وأن تَضحك وتُضحك.

فالمهمّ هو الكتابة التي يتولّى أحمد حراسة مرماها، وهو لهذا لا يكتب في الفايسبوك إلّا ما يُكتب، علماً أنّ السائد في استخدامه هو كتابة ما لا يُكتب. وفي المعنى هذا نراه يطوّع الفايسبوك للكتابة، مانحاً إيّاها ميداناً جديداً، بدل تطويعه الكتابة للفايسبوك. ولا نستطيع مطالبة العاشق بأن يعشق اثنتين بالقدر نفسه، إذ إنّ ولاء كهذا للكتابة لا بدّ أن يرافقه شيء من الخيانة، أو في الحدّ الأدنى التوظيف، لما ليس كتابةً محضة.

برهاننا الذي لا يُدحض على ذلك أنّ أحمد استطاع أن ينتج كتابين، أو دفترين، ممّا أسماه فسبكة. فالشيء بمجرّد أن يُكتب، في الفايسبوك أو في سواه، يغدو صالحاً لأن يُنشر بأحرف محرّكة وشدّاتٍ مُصانة. وهذا تعالٍ وتفارُق يُعزيان إلى عمل الكتابة، يعزّز طبيعته هذه شخص أحمد الذي لا يعرف الإسفاف. وبهذا المزيج الذي يضمّه والكتابةَ تتبدّى فايسبوكه خالية من الإسفاف خلوّها من الصغائر. لكنّها تتبدّى أيضاً متصلّبة في رفض المجاملة بالتلييك، على غرار لايك بلايك، إذ هي لا تندرج في قيم المزيج بمكوّنيه، أحمد والكتابة، كما تتبدّى متصلّبة في الامتناع عن كتابة «ههههه» تنبيهاً إلى أنّه يمزح، معوّلاً فحسب على قوّة الكتابة المازحة.

وقبل كلّ حساب وبعده، فإنّ الكمّ والنوع اللذين كتبهما عن الثقافة واللغة يشجّعان على اتّهامه بالأصوليّة، في ما خصّ الكتابيّة وما تتوسّله من لغة، ويشغلان بالنا على أحمد حين يُضطرّ إلى «تدنيس» الكتابة بالردّ كتابيّاً على فاتورة كهرباء مبالغة أو فاتورة بائع خضار طمّاع.

أمّا في ما عدا الكتابة، أو ما كان دونها، فهو مثل صاحبه دينغ هسياو بنغ، قليل الدوغمائيّة، كثير البراغماتيّة، لا يكتفي بقبول التعدّد في كلام الغرف وبتطبيق مبدأ «لكلّ مقام مقال»، بل يتيمّن بالمحارب أحياناً فيطلب استراحةً عابرة، هي، في الغالب، نشر صورة من أرشيفه الشخصيّ.

وتحديدٌ كهذا لعمل الفايسبوك له، في ما أظنّ، أسبابه في تكوين أحمد بيضون الشخصيّ. فهو في مقدّمة كتابه المرجعيّ عن رياض الصلح، ذكر ما معناه أنّه يتعلّم من المناهج جميعاً من دون أن يُلزم نفسه بواحد منها. كذلك، وفي مناسبة فايسبوكيّة حديثة العهد، كتب أنّه يكره الرائج والموضة.

وقد تفيدنا هاتان الملاحظتان في تفسير الاستخدام البيضونيّ للفايسبوك ولتوظيفه، من ثمّ، غرفةً من غرف كثيرة لخدمة غرض هو أبقى من الموضة وأعرض من الامتثال لمنهج.

فالحُرّ الذي يقارب الفوضويّ في أحمد يجعله عاصياً على الانضباط في ما ناقشه واختلف حوله حكماء الفايسبوك وكهنتها. وهذه الحرّيّة سخيّة ككلّ الحرّيّات، أعطتنا، هذه المرّة، كتاباً جميلاً آخر.

 

 

* ألقيت الأسطر أعلاه في ندوة أقامها معرض الكتاب العربيّ بمناسبة صدور كتاب أحمد بيضون «الفسبكات – الدفتر الثاني»، عن «دار شرق الكتاب»

omantoday

GMT 21:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 21:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 21:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 21:53 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الهُويَّة الوطنية اللبنانية

GMT 21:52 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

عقيدة ترمب: من التجريب إلى اللامتوقع

GMT 21:51 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

صعوبات تواجه مؤتمر «كوب 29» لمكافحة التغير المناخي

GMT 21:50 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

بين الديمقراطيين والجمهوريين

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فايسبوك أحمد بيضون فايسبوك أحمد بيضون



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab