بقلم:حازم صاغية
لم تكن أفغانستان دائماً أفغانيّة بالمعنى الرديء الذي باتت تعنيه الكلمة. هناك عوامل، بعضها داخليّ وبعضها خارجيّ، أسّست الحالة هذه. لكنّ المؤكّد أنّ العامل الأشدّ تأثيراً كان الانقلاب العسكريّ الذي أطلق الجنّ من القمقم. هكذا انفتح الباب للاحتلالات الأجنبيّة ولانخلاع الدولة ولموجات اللجوء السكّانيّ المليونيّة، وللموت قتلاً وفقراً وألماً.
في عهد الملك ظاهر شاه كانت الأمور تتقدّم بشكل معقول إنّما هادئ في أفغانستان: برامج تحديث غير متسرّعة، وتحسين تدريجيّ لأحوال النساء من دون استفزاز التركيبة العشائريّة وقيمها، وموقف حياديّ في الحرب الباردة، مع محاولة الاستفادة من دعم المعسكرين الغربيّ والسوفياتيّ لمشاريع التنمية وتطوير بنية تحتيّة، والميل إلى حلول سلميّة لـ«المشكلة الباشتونيّة» مع باكستان المجاورة.
هذا كلّه تغيّر مع انقلاب داوود خان، ابن عمّ الملك، عام 1973، فيما الحرب الباردة في ذروتها. ومن الانقلاب العسكريّ خرج إعلان الجمهوريّة، والانحياز إلى موسكو في الحرب الباردة، واستحضار قوميّة ونزعة باشتونيّة متطرّفة، ثمّ إشراك الشيوعيّين في الحكومة، ما أثار عداء المجتمع التقليديّ العميق، فضلاً عن الدول الغربيّة.
باقي القصّة الأفغانيّة معروف: الضبّاط الشيوعيّون أطاحوا داوود وقتلوه في أواسط 1978، ثمّ بدأ التنازع بين حزبيهم: حزب الشعب، أو خَلق، الأكثر راديكاليّة، وحزب الراية، أو برشام. صراعهما وضعف حكمهما نتج عنه الغزو السوفياتيّ في 1979، بعد أشهر على الثورة الإيرانيّة، ومع خوف موسكو من تأثيراتها الإسلاميّة على مسلميها في آسيا الوسطى. الرئيس الذي سبق أن نصّبه السوفيات، حفيظ الله أمين، قتله في قصره جنودهم المحتلّون. حرب «المجاهدين» على السوفيات والشيوعيّين اندلعت ووجدت دعماً غربيّاً وإسلاميّاً واسعين، وانتهى الأمر إلى الانسحاب السوفياتيّ الذي أنجزه ميخائيل غورباتشوف خلال 1988 – 1989. لكنّ ما بدأ كان أسوأ: فنظام «المجاهدين» ترافق مع حرب أهليّة مدمّرة ومديدة بين قادتهم كما بين إثنيّاتهم المسلّحة، ما أدّى إلى وصول «طالبان» إلى السلطة واستيلائهم على كابول في 1996. ضيف أفغانستان أسامة بن لادن، الذي تطوّع مشاركاً في «جهادها» ضدّ السوفيات، نفّذ جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فكانت الحرب الأميركيّة التي أطاحت طالبان ثمّ قتلت مؤسّس «القاعدة»، لكنّ الطالبانيّين استعادوا سلطتهم السابقة على العاصمة مع الانسحاب الأميركيّ قبل عامين، بعدما كانوا قد قضموا معظم الريف الأفغانيّ.
خلال هذه المسيرة الدمويّة الطويلة قُتل مليون ونصف المليون قبل 1992، ذهب معظمهم ضحايا سياسة الأرض المحروقة الروسيّة، وفي الحروب بين «المجاهدين» قتل مئات الآلاف وأُعدم آلاف السجناء، ثمّ قُتل عشرات الآلاف خلال الحرب الأميركيّة وبعدها، وجوعاً ومرضاً مات، في هذه الغضون، عشرات الآلاف، كما قُتل وجُرح أضعاف أضعافهم جرّاء انفجار الألغام الأرضيّة بهم.
وبفعل الضربات الروسيّة العمياء، لا سيّما عام 1982، انطلقت حركة نزوح كثيفة، فلجأ 2،8 مليون أفغانيّ إلى باكستان، و1،5 مليون منهم إلى إيران. وفي أواخر الثمانينات تجاوز عدد اللاجئين إلى الخارج الستّة ملايين، ثمّ لجأ، مع الانسحاب الأميركيّ، 1،6 مليون آخرون، ما رفع عدد اللاجئين والنازحين الذين دُمّرت بيوتهم ومناطقهم إلى 8،2 مليون من أصل 40 مليون أفغانيّ. والعدد مرشّح للازدياد، إذ تحت وطأة التردّي الاقتصاديّ والسيطرة الإيديولوجيّة المتزمّتة، يختار الكثيرون، خصوصاً الشبيبة والمتعلّمين والنساء، مغادرة البلد.
لقد كان معدّل الدخل السنويّ للفرد، قبل الانسحاب الأميركيّ، 368 دولاراً، لكنّه مذّاك انخفض بنسبة 20 بالمئة. وهذا مؤشّر من مؤشّرات كثيرة تدفع إلى التشكيك بجدوى المنع الرسميّ لزراعة الأفيون الذي صدر في أبريل (نيسان) 2022. فالتقارير تقول إنّ زراعته تتوسّع، خصوصاً مع تراجع عائدات الزراعات التقليديّة، وتردّي البنى التحتيّة على نحو متعاظم، وضعف السيطرة الحكوميّة في مناطق عدّة من البلد. لهذا فتهريب الأفيون إلى باكستان وإيران وعبرهما يتزايد، ويبدو أنّ حرس الحدود الطالبانيّ وبعض دوائر السلطة ليسوا بريئين. وإذ يُقدّر أنّ 90 بالمئة من أفيون العالم يأتي اليوم من أفغانستان، يُقدّر أيضاً أنّ عدد الأفغان الذين باتوا يتعاطونه، في ظلّ البطالة واليأس وسواهما من عوامل مشابهة، صار يبلغ الأربعة ملايين.
إنّ بعض العناوين الأفغانيّة تختلف، من دون شكّ، عن عناوين الحياة والسياسة الراهنتين في المشرق العربيّ. لكنْ ما من شكّ أيضاً في أنّ الكثير من العناوين يجمع بيننا، فيما ترسم لنا أفغانستان وجهة محتملة يصعب أن لا نراها أو أن نتجاهلها. فالنظام السياسيّ المؤسّس على القسوة، والعلاقات الأهليّة المدمّرة، والاحتلالات الأجنبيّة، والانهيار الاقتصاديّ، وامّحاء الحدود الوطنيّة، وانفجار موجات اللجوء والنزوح بلا ضابط، والأفيون الذي يعادله في حالتنا الكبتاغون...، كلّ ذلك ينذر بالأسوأ، والأسوأُ، في أغلب الظنّ، يسرع في الوفادة.