حازم صاغيّة
يُفترض بالمعارك الثقافيّة والرمزيّة أن تخدم معارك أخرى ملتهبة على جبهات القتال والسياسة والرأي العامّ. أمّا أن تشتعل المواجهات الثقافيّة فيما تخبو الجبهات السياسيّة والعسكريّة، فهذا ما يصعب تفسيره بغير النزعة الصبيانيّة.
والصبيانيّة قد تتوهّم أنّها بمقاطعة كتاب أو فرقة موسيقيّة، أو بإدانة فيلم سينمائيّ أو تحقيق صحافيّ، أو بالتنديد بمصافحة مع إسرائيليّ...، إنّما تعدّل توازنات القوى على الأرض. وقد يذهب بها العُظام والنبويّة أبعد من ذلك، فترى إلى نفسها نائبة عن التاريخ أو موقظة لضميره النائم. هكذا تُبنى الحجّة الألفيّة والخلاصيّة على النحو التالي: صحيح أنّ جبهات القتال والسياسة ساكنة هادئة، لكنْ لا، فنحن، من يناهضون التطبيع، نشعلها على جبهات الكتب والأفلام في انتظار أن يستيقظ الضمير، أو استعجالاً منّا لتلك اليقظة الآتية.
وهذا الضمير، على ما يبدو، لا يستيقظ. فقد انقضت ثلاث سنوات على ثورة مصر التي أطاحت «نظام كامب ديفيد» ولم يُلغ كامب ديفيد. وتعاقب على إبداء التمسّك بالسلام الطرفان الأقصيان في المجتمع المصريّ، أي العسكر و»الإخوان المسلمون»، أمّا الأطراف الأضعف حضوراً، فلم يستيقظ ضميرها هي الأخرى، ولم تندفع مطالبةً بإلغاء كامب ديفيد.
هكذا تبدو المعركة الثقافيّة المحتدمة كأنّها لا تخدم شيئاً على الإطلاق سوى استعراض قدرة أصحابها على إبهارنا بهزليّتهم.
ولا يلزمنا الكثير من الاطّلاع كي نلاحظ أنّ ما يجري في الواقع العربيّ العريض يؤكّد تلك الهزليّة. فالجيش السوريّ الذي كثيراً ما قيل إنّه الجيش المعدّ لمقاتلة إسرائيل، متفرّغ لمقاتلة السوريّين في مدنهم وأريافهم. والسلاح الكيماويّ السوريّ الذي وصفه بعضهم بموازنة السلاح النوويّ الإسرائيليّ، ذهب من غير رجعة. والمشروع النوويّ الإيرانيّ، وهو افتراضاً لموازنة القوّة الإسرائيليّة، يفكّكه أصحابه بدأب وانضباط، من دون أن يطالبوا حتّى بوضع السلاح الإسرائيليّ على طاولة التفاوض.
أمّا حركات المقاومة والممانعة فليست أفضل حالاً من الجيوش النظاميّة. فـ «حزب الله»، الذي سبق أن أقفل الجبهة مع إسرائيل بموجب القرار الدوليّ 1701 في 2006، غارق اليوم في المستنقع السوريّ. وحركة «حماس» موزّعة الهموم بين تصدّع علاقاتها بإيران وتصدّع علاقاتها بمصر، عازفة عن صواريخ بات لا يطلقها إلاّ من يبغون إحراج «حماس» أوالمزايدة عليها.
كذلك جاءت مأساة مخيّم اليرموك في سوريّة لتقول إنّ المسألة الفلسطينيّة تخضع لإعادة تعريف لا يفيد معها تكرار المحفوظات القديمة الميّتة. وفي العراق كما في سوريّة ولبنان وغيرهما، باتت العلاقات في ما بين الطوائف والجماعات العنوان الأوّل لحياة هذه البلدان أو موتها.
وفوق كامب ديفيد مع مصر، ووادي عربة مع الأردن، واتّفاق أوسلو مع الفلسطينيّين، والذي لا يحول شلله وترنّحه دون التمسّك به (!)، تنتشر بقع التعاون التجاريّ وغير التجاريّ ما بين المغرب في «المحيط» وقطر في «الخليج»، فيما يمتنع النظام التونسيّ الجديد عن تجريم التطبيع مع الإسرائيليّين.
ما العمل إذاً؟ مزيد من الضربات الموجعة نكيلها لمحطّة «إل بي سي» والزميلة آمال شحادة والسينمائيّ زياد الدويري وهذه الفرقة الفنّيّة أو تلك. عبر هؤلاء تمرّ الطريق إلى فلسطين مستقيمةً لا تعرّج فيها.