حازم صاغية
ليس أغرب من أن تتحوّل الميليشيا إلى جيش تعوّل عليه السلطة المركزيّة، فيما يتكشّف الجيش نفسه عن ميليشيا تتنصّل منها السلطة إيّاها. هذه هي حال العراق اليوم، حيث يناط بـ «الحشد الشعبيّ» تحرير ما خسره الجيش في الأنبار، بعد الموصل، علماً أنّ هذا «الحشد» سبق له أن أعطى تحريره لتكريت معنى الغزو الصريح.
وقد يقال الكثير، في هذا الصدد، عن تفاهة ذاك الجيش ولا جدواه. وهو ما لا يزال يكابر فيه كلّ من باراك أوباما وفلاديمير بوتين، مؤكّدين «مزيداً من تدريب القوّات العراقيّة» و «دعماً غير مشروط» لها. وهنا ينسى المراهنون على «اعتدال» حيدر العبادي، أنّ تعويله على «الحشد» يبني سياسات يصعب وصفها بـ «الاعتدال»، سياساتٍ ستعود بصاحبها إلى حيث انتهى نوري المالكي.
لكنّ هذه تبقى نقطة تقنيّة بالقياس إلى أنّ ذاك الجيش التافه إنّما يتبع سلطة يُفترض أنّها ثوريّة، بمعنى انبثاقها من رحم تغيير تاريخيّ ضخم هو إطاحة صدّام حسين في 2003. ولئن استُخدمت خارجيّة التغيير للطعن به، فقد جاءت النتائج المشابهة للتغييرات الداخليّة المصدر في سوريّة وليبيا واليمن لتطعن بهذا الطعن.
صحيحٌ أنّ مناهضي التغيير، أيّ تغيير، سيجدون حجّتهم وضالّتهم في ما حدث ويحدث في العراق. وقد سبق لسلطة بشّار الأسد، قبل اندلاع الثورة السوريّة، أن استخدمت هذه الحجّة بإفراط لردع السوريّين عن ثورة لن يكون مآلها إلاّ عراقيّاً، أي إطلاق الفوضى وتحكيم الغابة.
لكنّ المشكلة، هنا، كما يتّضح في سائر البلدان العربيّة التي تعرّضت أنظمتها للانهيار، أكان المصدر داخليّاً أم خارجيّاً، ليس التغيير، بل نقص التغيير. والمقصود هو تحديداً، الافتقار إلى نظرة جذريّة تطرح على المحكّ أُطُر الاجتماع الوطنيّ التي تسمّم الثورة بقابليّة الانقلاب إلى حرب أهليّة، جاعلةً الجيوش ميليشياتٍ والميليشيات جيوشاً. فهذه الأطر، بسبب الاستبداد المديد المتضامن مع ثقافة وعلاقات سقيمة سابقة عليه، نجحت في تحويل مساحات الاشتراك القليلة أصلاً، مساحات للعداء المفتوح والمخصّب. فما دام الإطار الوطنيّ للاجتماع موضع نزاع ضار، حلّ التعويض بـ «السيبة» عن «مخزن» مرغوب لا يتحقّق. وهنا، يروح الفردوس المفقود يتراوح بين منطقة مستحيلة ووطن متوهّم، فتتّسع المساحة التي يعيث «داعش» فيها فساداً.
ولا يقتصر الأمر على الدولة والجيش والميليشيا كميادين للتصارع الأهليّ. فأن يدمّر النظام السوريّ مدينة حلب، وأن يثير اقتراب «داعش» من تدمر خُواف تدميرها، بعدما فتك التنظيم بمدن العراق التاريخيّة وبآثارها، فهذا ما يقول الكثير عن سورية والعراق. فإذا كانت المجتمعات، في خلال نشأتها، تقيم المدن، وتؤسّس ذاكرات مشتركة، ولو باستحضار الأساطير وتوهّم التاريخ، فإنّ ما نشهده راهناً هو بالضبط تفكيك هذه الأواصر كلّها وإعلان عدم الرغبة في أيّ اشتراك: لا في الدولة والجيش، ولا في المدن والتاريخ، ولا، استطراداً، في المستقبل. هناك فقط سباق على التدمير، بحيث يدمّر النظام حلب ويدمّر «داعش» تدمر.
وهذا ما آن الأوان لقوله بلغة تعلو على لغتي التفاصيل السياسيّة التافهة والآمال الوطنيّة الساذجة. أمّا الذين يضعون البشر في مقابل المدن، والمدن في مقابل البشر، فيفوتهم أنّ التدمير لا يميّز بتاتاً بين الاثنين، وأنّ من يقتل المدن يقتل البشر، والعكس صحيح.
لقد سبق للروائي الإسرائيلي عاموس أوز، أن ألقى، عام 2003، ثلاث محاضرات في ألمانيا طالب فيها الأوروبيّين بمساعدة الإسرائيليّين والفلسطينيّين على إنجاز ما اعتبره «طلاقاً متمدّناً بين حقّين». ولا يتجرأ إلا على التكاذب المألوف، مَن يطالب العالم بطلاق متمدّن بين باطلين سينتهي زواجهما بسورية والعراق إلى قاع صفصف..