حازم صاغية
لا تقع العين على مكان عربيّ إلا ويتبدّى الداخل الوطنيّ وقد اختُزل إلى صفر، أو إلى ساحة للتفرّج على فعل الخارج.
فهناك اليوم «الحرب الدوليّة على الإرهاب» التي تجتمع فيها ألغاز لا تحيّر الألباب فحسب، بل تزيد إفقار كلّ إطار وطنيّ وكلّ تثمير سياسيّ محتمل فيه. ويميل الإعلام إلى اختزال تعقيدات السياسة الإقليميّة اليوم إلى صراعات محاور، إيرانيّة – تركيّة – خليجيّة، بعضها مستغلق وبعضها، غير المستغلق، هو ممّا يستحيل التدخّل أو التأثير فيه.
واليوم يتصدّر الحدثَ الموضوعُ النوويّ، الغربيّ/ الأميركيّ – الإيرانيّ، والذي يقول «العارفون» إنّه ما يقرّر الكثير ممّا يجري على أرضنا. وهناك أيضاً الموضوع النفطيّ المتمثّل بتدهور أسعار النفط، وهو أيضاً له «عارفون» يقولون إنّ هدفه إظهار حدود القوّة المتاحة لروسيّا وإيران، وربّما إضعافهما بما يتعدّى ذلك. وبعدما ملأت حركة «حماس» الدنيا صراخاً حول انتصار هائل أحرزته في غزّة، إذا بها توافق على شروط يصعب أن يوافق عليها منتصر، ومن خلال مؤتمر دوليّ للمانحين الذين تعهّدوا بتقديم 4,5 بليون دولار لإعادة إعمار القطاع المدمّر. هكذا تنفصل المقدّمات، مرّة أخرى، انفصالاً تامّاً عن الخلاصات، من دون أن يتواضع العقل الماضي في استنتاج هذه من تلك.
حتّى فكرة «التحالف»، وهي حجر زاوية في السياسات والحروب، وضعها الموقف التركيّ الأخير من مدينة كوباني على حدود الأحجية. ويزيد في إسباغ العجائبيّة ما يقوله البعض، أو يسرّبه، عن تعاون ما يتمّ «تحت الطاولة» بين واشنطن وطهران، وربّما بين واشنطن ودمشق أيضاً.
ولئن كانت ليبيا آخر البلدان المتحوّلة ساحةً لتصفية الحسابات الإقليميّة، فإنّ العراق كثيراً ما يتبدّى الآن مجرّد تجاور جغرافيّ وخرائطيّ لمواقع نفوذ تتعدّاه وإن توسّلت قواه المحلّيّة والطائفيّة. أمّا البحث عن السياسة في قتال المقاتلين، ربّما ما عدا «داعش» (!)، فقد غدا مهمّة في غاية الصعوبة. ذاك أنّ الأكراد الذين يدافعون عن كوباني إنّما يخوضون حرب فناء وبقاء في مواجهة الهجمة «الداعشيّة». وفي المقابل فإنّ الحوثيّين الذين ينتصرون، فيستولون على الحديدة بعد العاصمة صنعاء، ويوالون الزحف شرقاً، لا يؤشّر تقدّمهم إلى انبثاق سلطة يمنيّة جديدة بمقدار ما يؤشّر إلى تعميم حرب أهليّة وانشطار ترابيّ. وهذا ما قد يتجاوز شمال اليمن إلى جنوبه الذي لا يكتم الرغبة في الانفصال وانتظار اللحظة الملائمة لذلك.
لا شكّ في أنّ المآلات التي انتهت إليها الثورات العربيّة مسؤولة عن إشهار الانهيار الذي تتعرّض له تلك الدواخل الوطنيّة. أمّا مسؤوليّة العالم، خصوصاً السياسات الأميركيّة، عن الوصول إلى تلك المآلات، فمؤكّدة.
مع ذلك يبقى أنّ مقدّمات تصفير هذه الدواخل وامّحائها تقيم في البلدان التي تدخّلت فيها أميركا تدخّلاً كاملاً كالعراق، وفي البلدان التي تدخّلت فيها جزئيّاً كليبيا، وفي البلدان التي لم تتدخّل فيها البتّة كسوريّة، وفي تلك التي لم تنضج نزاعاتها إلى الحدّ الذي يطرح مسألة التدخّل كلبنان.
وأغلب الظنّ أنّنا سرّحنا أنفسنا، مكمّلين ما صنعه حكّام كصدّام والأسدين والقذّافي، حين أعدموا دواخل بلدانهم لمصلحة أدوار خارجية. وما دمنا قد سرّحنا أنفسنا، جاء العالم يصادق على هذا التسريح ويمضي في تهميش المهمَّش.