بقلم : خيرالله خيرالله
في ظلّ وباء كورونا وانشغال العالم به، تحصل في المنطقة أمور كثيرة تمرّ مرور الكرام بسبب حال التخبط التي تسود الكرة الأرضية ومطاراتها المغلقة في معظمها.
من بين ما يحصل في هذه الأيّام الكئيبة والبائسة عودة بنيامين نتانياهو إلى الواجهة في إسرائيل بعد قبول منافسه بني غانتس بجائزة ترضية تكون بديلا من تشكيل حكومة برئاسته. تمثّلت الجائزة في انتخاب غانتس، وهو رئيس سابق لأركان الجيش، رئيسا للكنيست خلفا لأحد أنصار “بيبي” ويدعى يولي يوئيل أدلشتاين.
فجأة، من دون مقدّمات، مهّد غانتس لبقاء نتانياهو في موقع رئيس الوزراء. تراجع رئيس الأركان السابق عن كلّ ما وعد به في حملاته الانتخابية في ما يخص الانتهاء من زعيم تكتل ليكود “الفاسد” و”المرتشي” الذي لا يمتلك مؤهلات تسمح له بالبقاء في موقع رئيس الوزراء، خصوصا بعد توجيه العدالة اتهامات واضحة وصريحة إليه وتحديد موعد لمباشرة محاكمته. تأجل هذا الموضوع بسبب انتشار كورونا في إسرائيل بشكل غير متوقّع.
بين نيسان – أبريل 2019، وآذار – مارس 2020، أجريت في إسرائيل ثلاثة انتخابات نيابية. كانت المنافسة في هذه الانتخابات أساسا بين تكتل ليكود الذي يتزعمّه “بيبي”، وحزب أزرق وأبيض المعروف بتسمية “حزب الجنرالات” بزعامة غانتس. يضم هذا الحزب ثلاثة رؤساء سابقين للأركان، هم غانتس وغابي أشكينازي وموشي يعلون. ركّز الثلاثة في الحملات الانتخابية الأخيرة لأزرق وأبيض على ضرورة إخراج “بيبي” من الحياة السياسية في إسرائيل.
ليس معروفا ما الذي جعل غانتس يتراجع لمصلحة نتانياهو، علما أنّه كان مكلّفا من رئيس الدولة رؤوفين ريفلين بتشكيل حكومة. كانت لديه الأصوات الكافية لتحقيق هدفه، إلى أن تبيّن أن الهدف الحقيقي بالنسبة إليه عدم تشكيل مثل هذه الحكومة مع ما يعنيه ذلك من إبعاد لـ”بيبي” عن الحياة السياسية الإسرائيلية نهائيا. ثمّة أولوية أخرى لغانتس غير إنهاء الحياة السياسية لنتانياهو. تتمثّل هذه الأولوية باستبعاد عرب إسرائيل، وهم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم بعد 1948، من أيّ دور سياسي، حتّى لو كان هذا الدور مجرّد دعم في الكنيست لحكومة برئاسة غانتس.
بعد انتخابات آذار – مارس الماضي، استطاعت الأحزاب العربية التي شاركت في الانتخابات بقائمة واحدة، هي “القائمة الموحّدة” من الحصول على خمسة عشر مقعدا في الكنيست. هذا رقم قياسي يحققه فلسطينيو 1948، إذ أن الكنيست يضم 120 عضوا. هناك نجم صاعد بين النواب العرب في الكنيست هو أيمن عودة. يمتلك الرجل عقلا براغماتيا إلى حدّ كبير، علما أنّ بين النواب العرب الـ15، نائبين إسلاميين أو ثلاثة يرفضون أيّ تعاون مع حزب غانتس. قبلت كتلة النواب العرب، بأكثرية أعضائها، دعم حكومة برئاسة غانتس. قبلت أيضا عدم المشاركة في هذه الحكومة. كلّ ما تريده هو إزاحة نتانياهو الذي لم يخف في السنوات الأخيرة أنّ همّه الوحيد هو استمرار الاستيطان، رافضا أيّ رغبة في أيّ مفاوضات مع الجانب الفلسطيني.
تبيّن على أرض الواقع أن الحزبين الكبيرين في إسرائيل، أي تكتل ليكود وأزرق وأبيض، يلتقيان عند أولوية تهميش عرب إسرائيل، أي تهميش كلّ فلسطيني من عائلة بقيت في أرضها وتمسّكت بها بعد 1948 لدى إعلان قيام دولة إسرائيل. هؤلاء الفلسطينيون موجودون في كلّ المناطق، في الجليل والمدن الساحلية مثل حيفا ويافا، وفي الناصرة. تبلغ نسبة هؤلاء21 في المئة من عدد سكان إسرائيل حسب آخر إحصاء رسمي.
تدلّ إعادة الاعتبار إلى “بيبي”، في هذه الظروف بالذات، على أنّ هناك شيئا ما يحضّر في إسرائيل. يمكن الكلام أوّلا عن إصرار على بقاء فلسطينيي الداخل مهمّشين على الرغم من أنّهم مواطنون إسرائيليون يتمتّعون بكلّ حقوقهم. هذا يعني، بكلّ بساطة، أن إسرائيل ليست الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، كما تحاول أن تسوّق نفسها في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة.
لم يكترث غانتس إلى الانقسام الذي وقع داخل حزبه في ضوء قبوله أن يكون رئيسا للكنيست. المهمّ بالنسبة إليه عزل فلسطينيي الداخل. يلتقي في ذلك مع نتانياهو. يلتقي معه أيضا في شأن كلّ ما له علاقة بأيّ تسوية مع الفلسطينيين. يبدو رئيس الأركان السابق مستعدّا لكل شيء، بما في ذلك لإعادة تعويم “بيبي” من أجل بقاء إسرائيل على خط تكريس احتلالها للضفّة الغربية، فيما قطاع غزّة عزل نفسه بنفسه عن العالم بعدما فضّلت “حماس” الحصار الإسرائيلي على التخلّي عن إمارتها الإسلامية.
كشف وباء كورونا إسرائيل. هذا على الأقلّ ما يؤكّده إيهود أولمرت رئيس الوزراء السابق الذي وجه انتقادات شديدة إلى كل من نتانياهو وغانتس في مقال نشره في صحيفة “جيروزالم بوست” قبل أيّام قليلة تحت عنوان “أزرق وأبيض؟ إنّه أسود”. رسم أولمرت صورة قاتمة للوضع الداخلي. ركّز على أن نتانياهو الموجود على رأس الحكومة منذ سنوات عدّة استخدم عبارات قاسية لمنع غانتس من أيّ تعاون مع الأحزاب العربية. لاحظ أولمرت أنّ “بيبي” ذهب إلى حد وصف فلسطينيي الداخل بـ”الخونة الذين يدعمون الإرهاب والذين يسعون إلى تدمير إسرائيل”. لاحظ أيضا أنّ قادة حزب أزرق وأبيض تجاهلوا في الحملات التي سبقت الانتخابات الثلاث الأخيرة كلّ القضايا المهمّة. تجاهلوا العلاقة بالفلسطينيين وفرص عودة المفاوضات معهم. تجاهلوا أيضا المشاكل التي تواجه القطاع التعليمي الذي بنت إسرائيل عليه الكثير وزيادة عدد الفقراء والهوّة بين الريف والمدينة وتراجع النظام الصحّي. ظهر هذا التراجع بوضوح من خلال انتشار وباء كورونا وعجز النظام الصحّي عن مواجهته بشكل فعال، وصولا إلى الاستعانة بجهاز الموساد (المخابرات) من أجل تأمين المعدات الصحية من دول العالم المختلفة، بما في ذلك كوريا الجنوبية والصين!
بعيدا عن كلام أولمرت الذي لم يقدم على أيّ خطوة في خدمة التسوية المعقولة مع الفلسطينيين، من الواضح أنّ همّ الحزبين الكبيرين في إسرائيل تكريس الاحتلال والذهاب إلى أبعد من قيام كيان فلسطيني شبه معزول في الضفّة الغربية. يريد الحزبان التجاهل التام لفلسطينيي الداخل تمهيدا ليوم تحدث فيه هجرة جديدة بالقوّة. ستطال مثل هذه الهجرة ما يقارب مليوني فلسطيني يقيمون حاليا داخل “الخط الأخضر” أي داخل خط حدود إسرائيل بعد 1948.
شكّل بنيامين نتانياهو حكومة جديدة أم لم يستطع ذلك. لا تبشّر التطوّرات السياسية التي تشهدها إسرائيل بالخير. هناك شيء ما يُعدّ لفلسطينيي الداخل، لعرب إسرائيل، كما هناك حلف غير مقدّس يقوم على فكرة أنّ المخاض في المنطقة سيؤدي إلى ولادة إسرائيل الكبرى من دون حاجة إلى أيّ حروب جديدة.