يصعب تحديد ما إذا كان الاشتباك الذي اتخذ شكل تراشق إعلامي بين “حزب اللّه” و”التيّار الوطني الحر”، أي التيار الذي أسّسه رئيس الجمهورية ميشال عون وصار الآن برئاسة صهره جبران باسيل، ذا طابع جدّي. تعود الصعوبة أساسا إلى غياب أي فكر أيديولوجي لدى مجموعة مسيحية لبنانية تسمّى بـ”العونيين” تنتمي في غالبيتها الساحقة إلى الطبقة دون الوسطى تسيّرها الغرائز الطائفية بمعناها الفجّ والبدائي والشعبوي ولا شيء آخر.
هذا لا يمنع من التوقّف عند طرح مجموعة من رموز “التيار العوني”، أحدهم عضو في مجلس النوّاب، من الذين يخجل المرء من ذكر أسمائهم، موضوع سلاح “حزب الله” غير الشرعي في لبنان. طرح “عوني” آخر موضوع التهريب عبر مطار بيروت بإشراف “حزب الله” وطرح ثالث، لا يليق وصفه سوى بأنّه مذيع من سقط المتاع، موضوع تهريب الدولار من لبنان إلى سوريا في وقت لا يجد اللبناني العادي أي عملة صعبة في الأسواق… إلّا بشق النفس وبسعر يؤكد انهيار العملة اللبنانية. انهارت العملة في موازاة انهيار النظام المصرفي…
بين “حزب الله” و”التيّار الوطني” لا مجال سوى الوقوف مع “حزب الله”، لا لشيء سوى لأنّه كان في كلّ وقت واضحا كلّ الوضوح وصادقا مع نفسه. لم ينف “حزب الله” يوما أنّه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. لم ينف الأمين العام للحزب حسن نصرالله أنّه “جندي” في جيش الوليّ الفقيه علي خامنئي “مرشد الثورة” في إيران أي السلطة العليا التي لا مجال لنقاش معها في كلّ ما يتعلّق بـ”الجمهورية الإسلامية” وتوجهاتها داخليا وخارجيا.
لا وجود لسرّ اسمه سلوك “حزب الله” الذي يعمل في خدمة إيران، بل هو ورقة إيرانية ولا يريد من لبنان سوى أن يكون ورقة في جيبه. ذهب حسن نصرالله إلى القول، في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن، إن سلاح “حزب الله” وماله يأتيان من إيران. مضيفا، ما معناه، أنّه ما دام لدى إيران المال، لا مشكلة مالية من أيّ نوع لدى “حزب الله”.
لم يخف الحزب يوما أنّه ليس حزبا لبنانيا. لبنان بالنسبة إليه مجرّد “ساحة” تستخدم في خدمة المصالح الإيرانية. لا يهمّ “حزب الله” أن تكون هناك الجامعة الأميركية في بيروت. على العكس من ذلك، عمل الحزب في ثمانينات القرن الماضي كلّ ما في وسعه من أجل اقتلاع الجامعة من رأس بيروت. خطف رئيس الجامعة الأميركية ديفيد دودج في بيروت في العام 1982… وأطلق دودج لاحقا في طهران التي نقل إليها عن طريق سوريا!
لدى “حزب الله” قصة طويلة مع الجامعة الأميركية التي تأسّست في العام 1866 والتي تعتبر رمزا من رموز لبنان، وذلك قبل إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920. لا داعي لاستعادة ما ارتكبه “حزب الله” في حق الجامعة الأميركية، بما في ذلك ما يُروى عن علاقته باغتيال رئيس الجامعة ملكوم كير في العام 1984 وخطف أساتذة ثم تفجير مبنى “كوليدج هول” التاريخي. لكن الأهمّ من ذلك كلّه أن “حزب الله” لم يعر اهتماما في أيّ يوم لمصير بيروت. عمل كلّ ما يستطيع من أجل تدمير المدينة ووسطها. ليس الاعتصام الطويل في وسط العاصمة بعد حرب صيف 2006 سوى دليل على رغبة في تحويل بيروت إلى ما يشبه ضاحية من الضواحي الفقيرة لطهران وإغلاقها في وجه كلّ سائح عربي أو أجنبي وحتّى في وجه اللبنانيين أنفسهم.
كان الهمّ الدائم للحزب المحافظة على سلاحه بغض النظر عمّا يحلّ بأهل الجنوب اللبناني الذي انسحبت إسرائيل منه في الخامس والعشرين من أيّار – مايو من العام 2000 تنفيذا للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في آذار – مارس من العام 1978. أكد قرار صادر عن مجلس الأمن حصول الانسحاب. لكن ذلك لم يكن كافيا كي يبطل بقاء الجنوب اللبناني رهينة إيرانية. لا يزال الحزب مصرّا على ذلك على الرغم من صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن مباشرة بعد حرب صيف 2006 وانتشار الجيش اللبناني مع قوّة دوليّة معزّزة في المنطقة…
هذا غيض من فيض ما يمكن قوله عن “حزب الله” لتأكيد انّه طرف يعرف تماما ماذا يريد ولا يهمّه بقاء لبنان من عدم بقائه. لعلّ آخر ما يهمّ الحزب مصير النظام المصرفي اللبناني الذي يشكل قاعدة الاقتصاد اللبناني… أو ما بقي من هذا الاقتصاد.
في مقابل الوضوح في فكر “حزب الله” وممارساته التي تتجاوز الحدود اللبنانية، لا وجود لاستراتيجية لدى “التيّار الوطني الحر” باستثناء الجوع المزمن إلى السلطة وإلى رئاسة الجمهورية تحديدا. من أجل أن يكون رئيسا للجمهورية، لبّى ميشال عون، بناء على ما رسمه له صهره جبران باسيل كلّ ما يطالب به “حزب الله”. غطّى “التيّار الوطني الحر” سلاح “حزب الله” منذ شتاء العام 2006. قبض ثمن ذلك وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. قبل ذلك وبعده تحوّل جبران باسيل إلى وزير وإلى الرئيس الفعلي للجمهورية. ما الذي حصل في السنة 2020 كي يكون هناك نائب عوني وبعض الأصوات المضحكة – المبكية تستفيق على أن “حزب الله” لا يمكنه الاستمرار في حمل سلاحه فيما اللبناني يجوع، وفيما التهريب مستمرّ وفيما المعابر الشرعية بين لبنان وسوريا مفتوحة على مصراعيها…
عمل “حزب الله” مصلحته. وجد طرفا مسيحيا يغطي له سلاحه وممارساته في لبنان وخارجه في وقت كان في حاجة ماسة إلى مثل هذا الطرف وفي وقت اتهمته المحكمة الدولية بأنّه وراء اغتيال رفيق الحريري. ليس رفيق الحريري رمزا سنّيا لبنانيا بمقدار ما أنّه زعيم وطني لبناني يؤمن بثقافة الحياة وبأهمّية بيروت كمدينة جامعة بين اللبنانيين وبعودة الحياة إليها من أجل إعادة لبنان إلى خارطة الشرق الأوسط والعالم.
من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، بأيّ ثمن كان، وقّع ميشال عون وثيقة تفاهم مع حسن نصرالله في شباط – فبراير 2006. هل التراشق الإعلامي بين الجانبين أمر جدّي أم لا في مرحلة بات فيها معروفا أن ضغوطا أميركية وأوروبية تمارس على جماعة ميشال عون؟
لا يمكن الجزم في هذا المجال. ما يمكن تأكيده في المقابل أن التحالف مع “حزب الله” ليس مثل فكّ هذا التحالف. قبض العونيون ثمن التحالف. ما الثمن الذي سيدفعونه في مقابل الانقلاب على “حزب الله”… هذا إذا كانوا يمتلكون قدرة الإقدام على مثل هذه الخطوة!