أخيرا استطاع مصطفى الكاظمي تشكيل حكومة عراقية خلفا لحكومة عادل عبدالمهدي الذي استقال في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر الماضي. من المهم السعي إلى الإضاءة على بعض الأمور التي مرّت بين استقالة حكومة عادل عبدالمهدي وتشكيل الكاظمي حكومته. ما لا بدّ من الإشارة إليه أوّلا هو أن مدة نحو ستّة أشهر تقريبا مرّت بين استقالة عبدالمهدي، في ضوء الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت مدنا عدّة بينها بغداد والبصرة والنجف والناصرية، وتشكيل حكومة الكاظمي التي يمكن أن تمهّد لانقلاب كبير. يوحي بذلك إعادة الاعتبار إلى الفريق عبدالوهاب الساعدي وترقيته إلى رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، بما يشير إلى رغبة واضحة في
من المهم السعي إلى الإضاءة على بعض الأمور التي مرّت بين استقالة حكومة عادل عبدالمهدي وتشكيل الكاظمي حكومته. ما لا بدّ من الإشارة إليه أوّلا هو أن مدة نحو ستّة أشهر تقريبا مرّت بين استقالة عبدالمهدي، في ضوء الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت مدنا عدّة بينها بغداد والبصرة والنجف والناصرية، وتشكيل حكومة الكاظمي التي يمكن أن تمهّد لانقلاب كبير. يوحي بذلك إعادة الاعتبار إلى الفريق عبدالوهاب الساعدي وترقيته إلى رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، بما يشير إلى رغبة واضحة في التخلّص من النفوذ الإيراني في العراق. هذا ليس حدثا عابرا، بمقدار ما أنّه يعكس توجها إلى تقديم مصلحة العراق على كلّ مصلحة أخرى… هذا حدث كبير في العراق في مرحلة ما بعد العام 2003.
لن يكون سهلا على الكاظمي التخلّص من مشكلة عميقة اسمها نظام ما بعد العام 2003 الذي لا يزال يبحث عن هوية له بعيدا عن المحاصصة الطائفية وسيطرة الأحزاب التابعة لإيران على جزء من القرار العراقي. ما يمرّ فيه العراق يتجاوز مسألة تشكيل حكومة إلى مشكلة عميقة لنظام يتبيّن يوما بعد يوم أنّه غير قابل للحياة. فما هو معروف أنّ تشكيل حكومة عراقية كان يحتاج في الماضي إلى تدخّل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني كي يصبح هناك وفاق على حكومة جديدة. هذا ما حصل بعد انتخابات أيّار – مايو 2018 التي استقال بعدها رئيس الحكومة حيدر العبادي، وهو أمر طبيعي، ولم يجد أمامه بعد ذلك سوى الرضوخ لقرار قاسم سليماني الذي وقع خياره على عادل عبدالمهدي لخلافته.
قبل تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي، لم يستطع كلّ من محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي تشكيل حكومة جديدة، ولم ينجح عادل عبدالمهدي في إعادة تعويم نفسه وحكومته. يشير ذلك إلى أنّ نفوذ إيران تراجع نسبيا في العراق.
هذا لا يعود إلى تصفية الأميركيين لقاسم سليماني وأبومهدي المهندس نائب قائد “الحشد الشعبي” العراقي فحسب، بل يعود أيضا إلى تطورات شهدها الوضع العراقي على الأرض. ظهر بوضوح أن الشيعة العرب في العراق ليسوا في الجيب الإيرانية. هذا التطوّر في صلب الانقلاب الذي يمكن أن يشهده العراق في المستقبل القريب.
فوق ذلك كلّه، تبيّن بما لا يقبل الشكّ أن هناك انقسامات داخل “الحشد الشعبي” الذي يضمّ ميليشيات تابعة لأحزاب عراقية تابعة، بطريقة أو بأخرى، لإيران. لم تعد هذه الميليشيات متلاحمة في ما بينها لأسباب عدّة. من بين هذه الأسباب نقص المال لدى العراق ولدى إيران.
كان طموح إيران تحويل “الحشد الشعبي” إلى ما يشبه “الحرس الثوري” في “الجمهورية الإسلامية”. لم تنجح في ذلك. تراجع مشروعها في ظلّ أزمة داخلية عميقة تعاني منها. في أساس هذه الأزمة فشل النظام في التعاطي مع المطالب الشعبية نظرا إلى أنّه ليس لديه ما يقدّمه للمواطن العادي من جهة، وتردي الوضع الاقتصادي من جهة أخرى. تردّى هذا الوضع بسبب العقوبات الأميركية وهبوط سعر برميل النفط وسعر الغاز وانتشار وباء كورونا الذي لعبت إيران دورا في تصديره إلى المنطقة بعدما أتاها من الصين.
في هذا السياق، جاء تشكيل مصطفى الكاظمي لحكومته. هذه الحكومة ليست معادية لإيران التي استطاعت عبر الجنرال إسماعيل قآني، الذي حلّ مكان سليماني في موقع قائد “فيلق القدس”، وضع “فيتو” على عدنان الزرفي. هناك قنوات بين الكاظمي نفسه وطهران. لكنّ الأكيد أن “الجمهورية الإسلامية” كانت تطمح إلى أن يشكل شخص آخر غير مصطفى الكاظمي، الذي كان مديرا للمخابرات ويعرف الأميركيين ويعرفونه، حكومة عراقية ما زالت غير مكتملة، أقلّه إلى الآن.
وعد رئيس الحكومة العراقية الجديد بإجراء انتخابات نيابية مبكرة. أيّده في ذلك الأميركيون وسارع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى الاتصال به. فوق ذلك كلّه، تعهد بإقامة علاقات جيدة مع الجيران العرب ومع غير العرب، أي مع إيران وتركيا. كانت لافتة الاتصالات التي تلقاها من كبار المسؤولين العرب، في مقدّمهم العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان.
في مرحلة معيّنة، أي في غضون أسابيع قليلة، ستبدأ مفاوضات أميركية – عراقية ذات طابع استراتيجي لتحديد مستقبل العلاقة بين البلدين. ما الذي سيفعله مصطفى الكاظمي الذي يمكن أن تزداد عليه الضغوط الإيرانية من أجل فرض انسحاب عسكري أميركي من العراق؟ من الواضح أن لإعادة الاعتبار إلى عبدالوهاب الساعدي الذي وصفه رئيس الحكومة العراقية بـ”البطل” مدلولا مهما في اتجاه استعادة العراق قراره المستقلّ.
ستكون الأسابيع القليلة المقبلة امتحانا للعلاقة بين رئيس الحكومة العراقية الجديد وإيران التي ارتضت مهادنته ولم تستطع عرقلة تسميته لضابطين محترفين في موقعي وزير الداخلية ووزير الدفاع. من الواضح أنّ لدى الكاظمي طموحات لا تتفق مع الطموحات الإيرانية بالنسبة إلى مستقبل العراق الذي يعاني من الفساد ومن هبوط سعر برميل النفط إلى حدّ كبير. العراق بلد مفلس، على الرغم من كلّ ثرواته ولا خيار آخر لدى رئيس حكومته، في حال كان يريد المحافظة على السلم الاجتماعي، سوى محاولة الاستجابة لمطالب شعبية عراقية تختزلها فكرة إعادة بناء مؤسسات الدولة ورفض أي سلاح خارج سلاح الجيش العراقي.
يمكن القول إن مصطفى الكاظمي نقطة توازن والتقاء بين أميركا وإيران في العراق، لكنّه عراقي أوّلا وأقدم على خطوة استعادة مؤسسات الدولة العراقية. سيعتمد الكثير في الفترة القريبة المقبلة على مستقبل النظام الإيراني وقدرته على التصالح مع الواقع مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بأنّ لا قدرة لديه على الاستمرار بمشروعه التوسّعي.
لعلّ التغريدة الأخيرة لـ”المرشد” علي خامنئي قد تعني شيئا عن إمكان الصلح مع أميركا. أورد خامنئي في تغريدته عبارات تمجّد صلح الحسن بن علي شقيق الحسين مع معاوية. هل يعطي خامنئي الضوء الأخضر لمفاوضات سرّية مع أميركا؟
في حال حصل ذلك، تكون إيران سارت في طريق التعقّل آخذة في الاعتبار أنّ إدارة دونالد ترامب ليست إدارة باراك أوباما، وأنّ تراجعها الذي أكده قبولها بمصطفى الكاظمي ليس تراجعا موقتا في انتظار أيّام أفضل يصعب أن تأتي في ظل كورونا وآثاره وهبوط سعر النفط والغاز واستمرار العقوبات الأميركية…