ثمّة خبر وحيد يريد اللبنانيون سماعه. يريدون معرفة متى تُفرج المصارف عن أموال المودعين، جميع المودعين. ليست المسألة مسألة ودائع لبنانية وعربية فحسب، هناك أيضا مصير لبنان الذي صار على المحكّ. الأكيد أن انتشار وباء كورونا يشغل الجميع، لكنّ ما يشغل كلّ لبناني هو مستقبل بلده، وهل لا يزال هذا البلد قابلا للحياة في حال انهيار النظام المصرفي؟
ليس سرّا أن لبنان مصرف. بفضل هذا الدور، إضافة إلى أدوار أخرى أدّاها لبنان منذ ما قبل الاستقلال في العام 1943، بقي البلد صامدا على الرغم من الحرب المستمرّة منذ العام 1975. ما مكّن لبنان من الصمود هو النظام المصرفي والمحاولات المستمرّة لجعل ثقافة الحياة تنتصر على ثقافة الموت التي ينادي بها “حزب الله”، والتي نادت بها قبله الميليشيات المسيحية والإسلامية والفصائل الفلسطينية التي لعبت دورها في تدمير بيروت، والتي استطاع النظام السوري استغلالها إلى أبعد حدود لفترة طويلة.
على الرغم من كلّ ما تعرّض له لبنان في السنوات الـ45 الماضية، بقيت هناك أسس يمكن الارتكاز عليها من أجل إعادة الحياة إلى البلد ودوره، بما في ذلك دور ميناء بيروت، الذي كان ميناء العرب، ومطار المدينة الذي كان سابع مطار في العالم في ستينات القرن الماضي. هناك بيروت نفسها، بتنوّعها وبصحفها وحياتها الثقافية ومجلاتها ومقاهيها وفنادقها ومطاعمها وملاهيها الليلية، التي جعلت منها مدينة تحبّ الحياة ويحلو العيش فيها.
على هامش أزمة القطاع المصرفي في لبنان، وهي أزمة يتوقّف عليها مصيره مستقبلا، توجد ملاحظة لا مفرّ من إيرادها. تتعلّق هذه الملاحظة بدور مجموعات مسيحية معيّنة في إيصال الوضع إلى ما وصل إليه، أي إلى “حكومة حزب الله” في “عهد حزب الله”. لا تكمن الخطيئة الأصلية في قبول كبار زعماء المسيحيين، بمن في ذلك الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل باتفاق القاهرة في العام 1969 فحسب، بل هناك خطيئة أكبر أيضا. تتمثّل هذه الخطيئة في انتخاب سليمان فرنجيّة رئيسا للجمهورية في العام 1970 بعد مرور أقل من سنة على اتفاق القاهرة.
لا يشكّ أحد في وطنية الرئيس سليمان فرنجيّة ولبنانيته الصميمة، لكن السنة 1970 كانت من أخطر السنوات التي مرّ بها الشرق الأوسط. ففي تلك السنة، توفى جمال عبدالناصر وحصل الانقلاب الذي نفّذه حافظ الأسد على رفاقه البعثيين تمهيدا لأن يصبح أوّل علوي يتولّى رئاسة الجمهورية العربية السورية في شباط – فبراير 1971. وفي 1970، استطاع الملك حسين المحافظة على عرشه وطرد المقاتلين الفلسطينيين من الأردن. بقدرة قادر انتقل معظم هؤلاء المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان الذي كان يحتاج، أكثر من أيّ وقت، إلى قيادة سياسية تستوعب تماما ما يدور في المنطقة، ومعنى ما جرى في الأردن ولماذا تولّى النظام السوري الجديد – القديم نقل الفدائيين الفلسطينيين إلى جنوب لبنان، مستفيدا من اتفاق القاهرة الذي عنى بين ما عناه تخلّيا للدولة اللبنانية عن جزء من أراضيها تُستخدمُ لشنّ هجمات على إسرائيل. سميّت الأرض التي تخلّت عنها الدولة اللبنانية لمنظمة التحرير الفلسطينية في منطقة العرقوب الجنوبية “فتح لاند”.
افتقد لبنان في تلك المرحلة التي أسست للانفجار الكبير في 13 نيسان – أبريل 1975 إلى قيادة سياسية تستوعب ما يدور على أرض البلد وفي المنطقة، خصوصا بعدما قرّر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر الهبوط أواخر العام 1973 في مطار رياق العسكري في البقاع، بدل مطار بيروت كي يلتقي رئيس الجمهورية اللبنانية في إطار جولة له في المنطقة. لم يوجد وقتذاك في لبنان من يدرك البعد المترتب على أن مطار بيروت لم يعد آمنا كي تحط فيه طائرة وزير خارجية أميركا!
في 1970، لم يكن هناك قيادة سياسية لبنانية تعرف ما يدور على أرض الواقع، بما في ذلك خطر قيام ميليشيات تابعة لأحزاب مسيحية انتهى الأمر بإحداها في العام 1975 إلى سرقة مستودعات الحوض الخامس في ميناء بيروت، حيث كانت توجد بضائع مكدّسة قسم منها في طريقه إلى العراق وقسم آخر إلى دول خليجية. لم يوجد أيضا في 1970 من يفهم معنى وجود ضباط المكتب الثاني (الاستخبارات العسكرية) من تلاميذ فؤاد شهاب والحاجة إلى هؤلاء في مواجهة التمدد الفلسطيني والدور السوري في هذا المجال…
هناك أمثلة لا تحصى على الأخطاء التي ارتكبت بعد 1970، وهي أخطاء ارتكبت قيادات مسيحية قسما لا بأس به منها. لا يعني ذلك أن القيادات الإسلامية قصّرت في هذا المجال. لكنّ ما يشهده لبنان حاليا يدلّ على أن ليس هناك من يريد التعلّم من أخطاء الماضي. الأخطر من ذلك كلّه أن ليس هناك رئيس للجمهورية يعرف أن لبنان سينتهي في حال غياب التفكير الجدّي في حماية كل الودائع في المصارف، الودائع الصغيرة قبل الكبيرة، والكبيرة قبل الصغيرة، بدل التفكير في كيفية مراعاة “حزب الله” وتفكيره الأعوج الذي لا علاقة له بحماية لبنان واللبنانيين ومستقبل أولادهم. القضيّة قضيّة مبدئية. كيف لصاحب مصنع الاستمرار في خلق فرص عمل إذا لم تكن لديه القدرة على التصرّف بأمواله؟ ماذا سيحلّ بموظفي المصارف في حال إفلاسها؟
محزن أن لا يوجد في لبنان من يدرك ما هي المعطيات الإقليمية، وأبعاد وضع اليد على أموال المودعين اللبنانيين والعرب، وخطورة تلهّي رئيس مجلس الوزراء السنّي في تصفية حساباته مع كلّ نجاح تحقّق في البلد. لا يمكن لعاقل الاعتراض على زيارة حسّان دياب للدكتور سليم الحصّ الذي شكّل أكثر من حكومة لبنانية. الاعتراض على استغلال الزيارة للغمز واللمز في حق الرئيس سعد الحريري الذي بذل كلّ ما يستطيع من أجل القيام بالإصلاحات المطلوبة ومنع السير في سياسة اقتصادية ذات طابع “انتحاري”.
يستأهل لبنان أفضل من هذا العهد، وأفضل من هذه الحكومة التي ليس لديها ما تتباهى به سوى الحقد على كل نجاح تحقّق منذ العام 1990، والسكوت على كلّ فشل حصل في السنوات الثلاثين الماضية، خصوصا الفشل المدوي لـ”التيّار الوطني الحر” في مجال الكهرباء، وهو ملفّ يتحمّل مسؤوليته منذ ما يزيد على عشر سنوات.
يصعب الرهان على عهد ليس فيه من يمتلك القدرة على فهم المعادلات الإقليمية، على غرار ما كانت عليه الحال في 1970. ما ليس مفهوما الغياب الكامل لمن يستوعب معنى أن مصير لبنان مرتبط بمصير النظام المصرفي، وأنّ استمرار احتجاز الودائع يعني نهاية لبنان.
هل هذا هدف “حزب الله” لا أكثر؟