يمكن الدخول في جدل طويل لا نهاية له عن الجهة التي تتحمّل مسؤولية تشظي اليمن. بات جزء من اليمن تحت سيطرة «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران. بات لإيران موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. ثمة خطورة، انطلاقاً من اليمن، على الدول العربيّة الخليجيّة من جهة وعلى حريّة الملاحة في البحر الأحمر وصولاً إلى حركة العبور في قناة السويس من جهة أخرى.
لا فائدة من الجدل نظراً إلى أنّه معروف تماماً من هي الجهة التي سعت إلى تنفيذ انقلاب على الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، الذي وصل إلى السلطة في 1978 والذي كان، بعد سنوات طويلة في السلطة، على رأس نظام مترهّل إلى حدّ كبير. هذه الجهة المسؤولة عن الانقلاب هي الإخوان المسلمون الذين اعتقدوا أن الفرصة متاحة لخلافة علي عبدالله صالح، غير آبهين بالدور الإيراني الذي يتسم بالدهاء والقدرة على المناورة واستغلال الفرص في آن.
يوجد سببان لإثارة موضوع اليمن في أيّامنا هذه. أوّلهما عودة الاعتداءات الحوثيّة على السفن المبحرة في البحر الأحمر، والآخر ذكرى مرور 34 عاماً على قيام الوحدة اليمنيّة في 22 مايو 1990.
انتهت الوحدة مع الانقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح في فبراير 2011، وهو انقلاب توج بخروج الرجل من السلطة في فبراير 2012 وتسليمه الرئاسة إلى نائبه عبد ربّه منصور هادي، الذي استكمل عمليّة التشظي بعدما وضع نفسه في خدمة الحوثيين، أي في خدمة إيران، من حيث يدري أو لا يدري.
كان عبد ربّه، رجلاً بسيطاً من محافظة أبين الجنوبيّة. اختاره علي عبدالله صالح، نائباً له. سألته مرّة: كيف يمكن لسياسي حذق أن يختار شخصاً مثل عبد ربّه نائباً لرئيس الجمهوريّة؟ أجاب بما معناه أنّه يريد شخصاً بسيطاً عن عمد في موقع نائب الرئيس وذلك بعد تجربته المرّة مع الجنوبي الآخر علي سالم البيض، الذي كان شريكاً حقيقياً في تحقيق الوحدة.
وجد الإخوان في «الربيع العربي» فرصة للانقضاض على علي عبدالله صالح، معتقدين أنّ ذلك سيكون سهلاً. مع مرور الوقت، انقلب السحر على الساحر وخرج رابح واحد من كلّ المعارك والصراعات التي شهدها اليمن منذ العام 2011 وصولاً إلى الوضع الراهن الذي يمكن اختزاله بهدنة حوثيّة مع السعودية، وهي هدنة أرادتها إيران التي وقعت مع المملكة اتفاقاً في العاشر من مارس 2023 برعاية صينيّة. سمح الاتفاق بعودة العلاقات الديبلوماسيّة بين الرياض وطهران. لكنّ ليس ما يشير، أقلّه إلى الآن، أن إيران مستعدة لتنفيذ البند الأهمّ في الاتفاق وهو بند «وقف التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى».
بعد 34 عاماً على الوحدة اليمنيّة ثمة ملاحظات من المستحسن الوقوف عندها. بين هذه الملاحظات استمرار إيران في استخدام الحوثيين في الحروب التي شنتها على هامش حرب غزّة. هناك حرب غزّة وهناك حروب إيران التي اكتفت بردّ ذي طابع فولكلوري على إسرائيل لدى قتل الدولة العبرية عدداً من كبار المسؤولين في «فيلق القدس» كانوا في القنصليّة الإيرانيّة في دمشق. حدث ذلك في أول أبريل الماضي. بعد أيام قليلة من الرد الإيراني، عادت إيران إلى سيرة خوض حروبها بأدوات محليّة في لبنان وسورية والعراق واليمن بهدف إفهام أميركا أنّها القوة المهيمنة في المنطقة وأنّ لا مفر من عقد صفقة معها.
في الذكرى الـ34 للوحدة اليمنيّة، من المفيد أيضاً التوقف عند التغيير الجذري الذي حصل في اليمن الذي انتقل من دولة مركزيّة تُحكم من صنعاء إلى دولة أصبح جزء منها يدور في الفلك الإيراني. يستخدم الجزء الإيراني من اليمن في الوقت الحاضر في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر. ما وجهة الاستخدام الأخرى لهذا الجزء الذي يسيطر عليه الحوثيون مستقبلاً؟
صار شمال اليمن لغماً إيرانياً في شبه الجزيرة العربيّة. تكمن خطورة هذا اللغم في السيطرة الإيرانيّة الكاملة على الحوثيين. تستطيع «الجمهوريّة الإسلاميّة» استخدام هذا اللغم بالطريقة التي تشاء وفي الاتجاه الذي تختاره وفي التوقيت الذي يناسبها. أمس كان هذا اللغم موجهاً إلى الداخل اليمني وإلى دول الخليج العربي. نجد الكيان الحوثي، في الوقت الحاضر، يُستخدم في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر.
سمحت الوحدة اليمنيّة، بغض النظر عن شوائب كثيرة من بينها حرب صيف 1994، بتكريس نوع من الاستقرار في المنطقة. يؤكد ذلك ترسيم الحدود اليمنية – العُمانية والحدود اليمنيّة – السعودية. في ظلّ استحالة العودة إلى الوحدة، ثمة سؤال بدهي يطرح نفسه بإلحاح. هل يمكن التوصل إلى تسوية سياسية مع الحوثيين يوماً؟ الجواب لا وألف لا، لا لشيء سوى لأن إيران تسيطر تماماً على القرار الحوثي. هل يمكن الوصول إلى تسوية مع إيران، بنظامها الحالي، كي يصبح ممكناً الحديث عن تسوية مع الحوثيين؟
لا يمكن تجاهل أن الحوثيين جزء من المكونات اليمنيّة، لكن دخولهم تسوية سياسية شيء وخروجهم من الهيمنة الإيرانيّة شيء آخر. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه كلّ من يتعاطى مع الملف اليمني بتعقيداته التي لا نهاية لها. إنّها تعقيدات تعني الوصول إلى خلاصة وحيدة. فحوى الخلاصة أنّ لا تسوية مع الحوثيين من دون إلحاق هزيمة عسكريّة كبيرة بهم، قبل أي شيء آخر وقبل فتح ملفّ اليمن مع إيران.
هل يمكن الرهان على «الشرعيّة» الجديدة برئاسة الدكتور رشاد العليمي، لتحقيق مثل هذا الإنجاز... أم أنّ اليمن سيترك لمصير بائس، أي إلى مزيد من التشظي الذي يعني بين ما يعنيه مزيداً من العذابات لمواطنيه، خصوصاً الذين يقيمون في مناطق سيطرة الحوثيين!