مرّة أخرى، يبادر الرئيس قيس سعيد الى تغيير قوانين اللعبة البائسة التي لا افق لها والتي يسعى الاخوان المسلمون الى جرّه اليها في تونس، بل الى فرضها على تونس. يفعل ذلك كي تبقى تونس دولة مختلفة ذات وجه مضيء، دولة قادرة على الدفاع عن الإنجازات التي تحقّقت منذ الاستقلال في العام 1956 بالاعتماد على الرجل والمرأة في الوقت ذاته.
جعلت تلك الإنجازات من تونس دولة مدنيّة ذات مكانتها على خريطة منطقة شمال افريقيا وفي ما كان يسمّى العالم العربي كلّه. كان ذلك قبل ان يصبح هناك عوالم عربيّة كما الحال عليه الآن. ليس صدفة ان مقرّ جامعة الدول العربيّة انتقل الى تونس بعد القطيعة المؤقتة مع مصر التي وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في آذار – مارس 1979.
ليس تعيين امرأة، هي السيّدة نجلاء بودن رمضان، رئيسة للحكومة حدثا عاديّا في تونس، خصوصا انّها من القيروان، المدينة الداخلية العريقة، التي يحظى احد ابنائها للمرّة الأولى بموقع رئيس الحكومة.
أراد قيس سعيّد تأكيد انّ لا عودة الى خلف، أي الى التخلّف والتجاذبات التي حاولت حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي فرضها، كي تحلّ الفوضى على كلّ المستويات، خصوصا في مجلس النواب. ليست لدى أحزاب من نوع النهضة، اكانت ذات طابع شيعي او سنّي، غير برنامج واحد. يتمثّل هذا البرنامج في تهديم مؤسسات الدولة والقضاء على كلّ ما هو حضاري فيها.
ما كان لمصر أن تنهض وتستعيد عافيتها لو بقي الاخوان في السلطة بفضل واجهة اسمها محمّد مرسي. انتفض الشعب المصري، بدعم واضح من المؤسسة العسكريّة، كي يمنع بلده العريق من السقوط. انتفضت تونس بدورها بفضل قيس سعيد من اجل وضع حدّ لتدهور مستمرّ منذ بداية العام 2011 عندما اضطرّ الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الى مغادرة البلد تحت ضغط شعبي سميّ "ثورة الياسمين".
لم يستطع بن علي في السنوات الأخيرة من عهده تهيئة تونس لانتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. سقط في فخّ عائلة زوجته ليلى طرابلسي وفي فخ "السيّدة الأولى" نفسها التي باتت الرجل الأوّل في تونس فقضت على كلّ انجاز تحقّق في عهد زوجها.
سيدخل قيس سعيّد، المدعوم من المجتمع المدني التونسي، من المرأة والرجل، ومن الجيش وقوات الامن، التاريخ من بابه الواسع. سيتمكّن من ذلك في حال استطاع وضع الأسس لنظام ديموقراطي في تونس بعيدا عن غوغاء الإسلام السياسي الذي تعتبر حركة النهضة رمزا من رموزه. ركّزت النهضة على تدمير المجتمع التونسي المنفتح وعلى تشجيع كلّ ما له علاقة بالمس بما تحقّق من إيجابيات في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
ثمّة حاجة، بكلّ بساطة، الى وضع أسس لنظام سياسي جديد يعيد الحياة الى الاقتصاد التونسي بما يساهم في المحافظة على الطبقة الوسطى التي كبر حجمها في عهد بن علي. لا شكّ أنّ الفساد كان متفشيا في أيّام الرئيس السابق، لكنّ ما لا بدّ من الاعتراف به أنّه بقي محصورا في دوائر معيّنة مرتبطة بعائلة "السيّدة الأولى" التي كانت تطمح الى مرحلة انتقالية تخلف فيها زوجها تمهيدا لتوريث ابنهما في مرحلة معيّنة.
من اللافت ان قيس سعيّد بعيد كلّ البعد عن الفساد وأنّ لا محيط مباشرا لديه يمتلك مصالح تجاريّة وماليّة. هذا يفرض عليه الانتقال الى مرحلة يضع فيها مع معاونيه، على رأسهم رئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان، برنامجا يعيد الحياة الى الاقتصاد الذي يحتاج أوّل ما يحتاج إلى بلد مستقرّ وآمن.
ستكون التحدّيات كبيرة في المرحلة المقبلة. هل يبقى الجيش حارسا للجمهوريّة ومؤتمنا عليه كما حصل في الماضي؟ في النهاية، لعب الجيش دوره في مرحلة وضع حدّ لمهزلة بقاء الحبيب بورقيبة في الرئاسة بعدما تجاوز الثمانين في العام 1987 وبعدما فقد الكثير من قدراته الذهنيّة وبات اسير نساء القصر في مقدمّهنّ قريبته سعيدة ساسي. كذلك، لعب الجيش دوره في نهاية العام 2010 عندما اندلعت "ثورة الياسمين" بعدما احرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد. تولى الجيش رعاية خروج بن علي من تونس بهدوء ومن دون إراقة دماء.
الأكيد ان قيس سعيّد يستطيع لعب دور في غاية الاهمّية في مجال ترؤس مرحلة انتقالية يلعب فيها الجيش دور حارس الجمهوريّة والمؤتمن على مؤسساتها، كما فعل سابقا. لكنّ هناك سؤالا يطرح نفسه بقوّة. ما الذي يريده قيس سعيّد حقيقة؟ هل لديه طموحات من نوع ان يكون بورقيبة آخر او زين العابدين بن علي آخر؟ لا تزال سنّه تسمح له، الى حدّ ما، بذلك. لا يزال في الـ63 من العمر. لكنّ علامة الاستفهام ستظلّ مرتبطة بموقف الجيش والأجهزة الامنيّة التي دعمته. هل هناك شخصيّة عسكريّة او امنيّة تعدّ نفسها لدور ما في مرحلة معيّنة في ظل حال الإفلاس التي تعاني منها الأحزاب التونسيّة كلّها، وليس حركة النهضة وحدها؟
أسئلة كثيرة ما تزال من دون أجوبة في تونس، لكنّ الواضح ان ليس في الإمكان الاستخفاف بقيس سعيّد الذي اظهر صفات قياديّة، خصوصا بعد اتخاذه موقفا واضحا من حركة النهضة ومن راشد الغنوشي بالذات... وبعد تعيينه امرأة في موقع رئيس الحكومة.
كشف مثل هذا التعيين جرأة كبيرة من جهة وتصميما على المضي في الإصلاحات الى النهاية من جهة اخرى. كذلك، يكشف أنّ لا ثقة لديه، وربّما لا ثقة ايضا لدى المؤسستين العسكريّْة والامنيّة، بالشخصيات السياسية والحزبيّة التونسيّة. فنجلاء بودن اقرب الى شخصية تكنوقراطية اكثر مما هي شخصيّة سياسية.
خلاصة الامر، أنّ الكثير يتوقف على نجاح قيس سعيّد بكل ما يمثله الاعداد للمرحلة المقبلة. هذا يعني ان ينجح حيث فشل بورقيبة وزين العابدين بن علي، فشلا اعداد تونس الى مرحلة سياسية يكون فيها انتقال سلمي للسلطة عبر انتخابات تجري في أجواء طبيعية لا اكثر ولا اقلّ.