لم يكن الخطاب الذي القاه الملك محمّد السادس في مناسبة الذكرى الـ24 لتربعه على عرش المملكة المغربيّة سوى تأكيد لوضوح ليس بعده وضوح للعاهل المغربي على كلّ الصعد. إنّه وضوح وحضور في ما يخص المغرب وما يحيط به وما يدور في العالم من منطلق «التلاحم الدائم، والتجاوب التلقائي، بين العرش والشعب».
مكّن مثل هذا التلاحم المغرب «من إقامة دولة - أمة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ». في تلك المعادلة سرّ قوة المغرب. إنّها القوّة التي مكنته من مواجهة الصعوبات والتحديات بالاعتماد على «الجدّية».
لم يتجاهل محمّد السادس الإنجازات التي تحققت، كما لم ينس طبيعة التحديات التي تواجه المغرب مستقبلاً، خصوصاً في ما يتعلّق بالمناخ والمياه.
قال في هذا الصدد إنّ «الشباب المغربي، متى توافرت له الظروف، وتسلح بالجد وبروح الوطنية، دائماً ما يبهر العالم، بإنجازات كبيرة وغير مسبوقة، كتلك التي حققها المنتخب الوطني في كأس العالم».
كذلك، لم يتجاهل العاهل المغربي قرار تقديم المغرب ملف «ترشيح مشترك مع أصدقائنا في اسبانيا والبرتغال لاحتضان نهائيات كأس العالم لكرة القدم في السنة 2030».
لا يُقدم على مثل هذه الخطوة سوى بلد واثق من نفسه وعلى علاقة متميّزة مع الدول القريبة منه على الضفّة الأخرى من المتوسط والأطلسي. أشاد بشكل خاص بـ«إنتاج أول سيارة مغربية محلية الصنع، بكفاءات وطنية وتمويل مغربي، وتقديم أول نموذج لسيارة تعمل بالهيدروجين، قام بتطويرها شاب مغربي».
كشف خطاب محمّد السادس أن المغرب بلد من دون عقد. ظهر ذلك بوضوح من خلال اشارته إلى أن «الجدّية المغربيّة» تتجسد عندما يتعلق الأمر بقضية وحدتنا الترابية.
فهذه الجدية والمشروعية هما اللتان أثمرتا عن توالي الاعترافات بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وآخرها اعتراف دولة إسرائيل، وفتح القنصليات في العيون والداخلة، وتزايد الدعم لمبادرة الحكم الذاتي.
كلّ ما في الأمر أن إسرائيل اعترفت بمغربيّة الصحراء بشروط المغرب. في هذا المجال قال العاهل المغربي: «بنفس الجدية والحزم، نؤكد موقف المغرب الراسخ، بخصوص عدالة القضية الفلسطينية، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، بما يضمن الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة».
لدى التطرّق إلى جملة التحديات التي تواجه المغرب، قال محمّد السادس: «لقد ساهمت تداعيات الأزمة التي يعرفها العالم، وتوالي سنوات الجفاف، على المستوى الوطني، في ارتفاع تكاليف المعيشة وتباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي.
لذا، وجهنا الحكومة لاتخاذ التدابير اللازمة، قصد تخفيف آثارها السلبية على الفئات الاجتماعية والقطاعات الأكثر تضرراً وضمان تزويد الأسواق بالمنتجات الضرورية. اليوم، مع ظهور بعض بوادر التراجع التدريحي لضغوط التضخم، على المستوى العالمي، فإننا في أمس الحاجة إلى الجدية وإشاعة الثقة، واستثمار الفرص الجديدة، لتعزيز صمود الاقتصاد الوطني وانتعاشه».
تضمّن الخطاب تحليلاً دقيقاً للتطورات الدولية. قال العاهل المغربي:«في ظل ما يعرفه العالم، من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات وتداخل العديد من الأزمات، فإننا في أشد الحاجة إلى التشبث بالجدية، بمعناها المغربي الأصيل:
أولاً: في التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله - الوطن – الملك.
ثانيا: في التشبث بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد.
ثالثا: في صيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك.
رابعاً: في مواصلة مسارنا التنموي، من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية».
كان الخطاب استثنائياً بالفعل لجهة الصراحة في التعاطي مع أبناء الشعب المغربي ومع دول الجوار، في مقدّمها الجزائر. يؤكد ذلك قول محمّد السادس:
«إن عملنا من أجل خدمة شعبنا، لا يقتصر فقط على القضايا الداخلية، وإنما نحرص أيضاً على إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة، وبخاصة دول الجوار.وخلال الأشهر الأخيرة، يتساءل العديد من الناس عن العلاقات بين المغرب والجزائر، وهي علاقات مستقرة، نتطلع إلى أن تكون أفضل. وفي هذا الصدد، نؤكد مرة أخرى، لإخواننا الجزائريين، قيادة وشعباً، أن المغرب لن يكون أبداً مصدر أي شر أو سوء».
كذلك، نؤكّد «الأهمية البالغة، التي نوليها لروابط المحبة والصداقة، والتبادل والتواصل بين شعبين. ونسأل الله تعالى أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ويتم فـتح الحدود بين بلدينا وشعبينا، الجارين الشقيقين».
إنّها رسالة واضحة موجّهة إلى الجزائر حيث يوجد نظام يصرّ على إبقاء الحدود مع المغرب مغلقة منذ العام 1994.
كيف يمكن لنظام يعتبر نفسه مسؤولاً عن رفاه شعب بكامله إبقاء الحدود مغلقة مع المغرب منذ 29 عاماً ؟
لا يمكن التطرّق إلى هذا الموقف من دون الإشارة إلى خوف عميق، بل هلع، لدى النظام الجزائري من تجربة يعيشها بلد جار مستقرّ لعب دوراً مهماً في مساعدته على الحصول على استقلاله ولا يكنّ له سوى الخير؟
قد يكون التفسير الوحيد لهذه الظاهرة الغريبة والمستغربة خشية النظام الجزائري من رؤية مواطنيه للفارق القائم بين حال المواطن في الجزائر وحال المواطن في المغرب.
لو لم يكن الأمر كذلك، لكان سمح لمواطنيه بزيارة المغرب والإطلاع على تجربة مختلفة تقوم على توفير كلّ ما يمكن مساعدة المواطن المغربي على مواجهة كلّ أنواع التحديات في مختلف الظروف.
ليس سرّاً أن المغرب لا يمتلك ثروات طبيعية كبيرة. لكنّه عرف كيف يكون الاستثمار في الإنسان مجدياً، خصوصاً في مجال التعليم. كذلك عرف كيف يدافع عن وحدته الترابيّة وأن يحشد دعماً عربياً ودولياً متزايداً لهذه الوحدة التي تعبّر عنها مغربيّة الصحراء التي أصبحت امراً واقعاً.
اكثر من ذلك، عرف المغرب بفضل مبادرات محمّد السادس تحقيق اختراقات في افريقيا وتوظيف ما لديه من إمكانات لقطع الطريق على مشاريع تستهدف إقامة دولة مسخ في الصحراء تؤمن منفذاً للنظام الجزائري إلى المحيط الأطلسي.
لا يصحّ إلّا الصحيح. يؤكّد ذلك وجود واحة استقرار واحدة وحيدة في شمال افريقيا. اسم هذه الواحة المغرب بقيادة محمّد السادس.