ثمّة منطق لجانب من السياسة الفرنسية تجاه لبنان. انّه الجانب المرتبط بملء الفراغ الذي ولد من وجود ميشال عون في قصر بعبدا.
يكون ذلك بحكومة فعّالة قادرة على القيام بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة التي تكشف بين ما تكشفه فشل «عهد حزب الله» الذي بدأ في الواحد والثلاثين من أكتوبر 2016. توّج هذا الفشل بتفجير ميناء بيروت ومعه قسم من المدينة.
سبقت التفجير انهيار النظام المصرفي اللبناني الذي حرص الرئيس ايمانويل ماكرون على الإشارة اليه غير مرّة في اثناء زيارته الاخيرة لبيروت.
كان لافتا انّ ماكرون شدّد من بيروت، التي زارها للمرّة الثانية في غضون ثلاثة أسابيع، على اهمّية تشكيل الحكومة الجديدة سريعا، مشيرا الى حصوله على التزامات واضحة في هذا الشأن من كبار المسؤولين اللبنانيين. لم يكشف سرّا عندما تحدّث عن «عقوبات» على الطبقة السياسية في غياب حكومة جديدة تشكل سريعا حسب مواصفات معيّنة.
كذلك، ليس سرّا ان رؤساء الحكومة السابقين، أي سعد الحريري وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمّام سلام، وفّروا غطاء لرئيس الوزراء المكلّف مصطفى اديب. هبط السفير اللبناني في المانيا منذ سبع سنوات، بالمظلة على موقع رئيس الوزراء، بعد إصرار فرنسي على تسمية شخصية سنّية تكلّف تشكيل الحكومة.
ليس هبوط اديب على الموقع السنّي الأهم في البلد، على الرغم من انّه قد تكون لديه صفات حسنة كثيرة، كما يروي كثيرون، سوى استمرار لعملية اذلال اهل السنّة في لبنان.
وهي عملية بدأت باغتيال رفيق الحريري في العام 2005 وما زالت مستمرّة عن طريق عون وصهره جبران باسيل اللذين يكنّان حقدا ليس بعده حقد على بيروت وما بناه رفيق الحريري الذي أعاد الحياة الى العاصمة اللبنانية.
غيّر الرئيس الفرنسي قواعد اللعبة السياسية في لبنان من خلال مؤتمره الصحافي الذي عقده في قصر الصنوبر، الذي اعلن منه «لبنان الكبير» قبل مئة عام. شدّد على ضرورة قيام حكومة تضمّ وزراء اختصاصيين وخبراء.
استبعد وجود ممثلين للأحزاب السياسية في الحكومة الجديدة التي سيقدّم رئيس الوزراء المكلّف لائحة بها الى رئيس الجمهورية في غضون أسبوعين، في ابعد تقدير.
ماذا اذا رفض عون التشكيلة التي سيحملها اديب... وماذا اذا قبل بها، علما انّه مصرّ على ان يحتفظ»التيار الوطني الحر«، بالسيطرة على وزارتي الطاقة والخارجية.
في الحالين، هناك عهد انتهى بعدما تبيّن، في ضوء الكارثة التي حلّت ببيروت، انّ ليس في البلد من يستطيع تحمّل مسؤولياته.
الفارق سيكون بين حكومة تملأ هذا الفراغ وبين إصرار على بقاء الفراغ الذي سيترتّب عليه مزيد من التدهور الاقتصادي.
الخاسر الأكبر، في كلّ الأحوال، هو رئيس الجمهورية الذي آن أوان تقاعده في حال كان مستعدا للتعاطي مع الواقع وليس مع أوهام وطموحات ما زالت تحكم تصرّفات باسيل.
طوى ماكرون صفحة»عهد حزب الله«في سياق خريطة طريق تأخذ في الاعتبار أنّه سيكون عليه في مرحلة معيّنة التعاطي مع المشكلة التي يشكلّها الحزب المسلّح الذين ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني.
كيف التعاطي مع هذه المشكلة الضخمة؟ الأكيد انّ ذلك لا يكون عن طريق مؤتمر تأسيسي كما طرح الأمين العام لـ»حزب الله«حسن نصرالله في العام 2013.
بكلام أوضح، إنّ الإصلاحات الاقتصادية وتلك المرتبطة بالماء والكهرباء والبنية التحتية والبيئة ممكنة وضرورية، لكنّ الإصلاحات السياسية تتطلب اكثر من ذلك.
تتطلب مثل هذه الإصلاحات ما طرحه البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي لم يتوقف عن التحدّث عن»الحياد اللبناني«منذ الخامس من يوليو الماضي. يستحيل إعادة تأسيس لبنان من دون حوار على قاعدة المساواة. لا يمكن ان يكون الحوار بين طرف مسلّح وطرف غير مسلّح.
لا مجال لأي مؤتمر تأسيسي او لاعادة تأسيس للبنان في الظروف الراهنة التي لا يزال فيها سلاح»حزب الله«موجودا وموجها الى الصدور العارية للبنانيين الآخرين، بمن في ذلك الشيعة الذين يرفضون توجهاته ومغامراته داخل لبنان وخارجه.
يأتي»الحياد«اللبناني قبل الإصلاحات. من دون حياد لا مجال لإصلاحات سياسية يوما.
هذا يعني أنّ لا افق في المدى البعيد للسياسة الفرنسية في لبنان ولمنطقها. تستطيع هذه السياسة، بفضل الجهود التي بذلها ماكرون، وضع حدّ للتدهور والمساهمة في مصالحة لبنان مع الكهرباء.
كذلك، يمكن للرئيس الفرنسي، في حال تشكلت حكومة اختصاصيين وخبراء إعادة اعمار الجزء الذي دمّر من بيروت. ولكن لدى الوصول الى السياسة والمخارج السياسية، تبرز الحاجة الى شيء آخر.
هذا الشيء الآخر هو خطة لتخليص لبنان من سلا«حزب الله» الذي يستطيع ان يناور مع ماكرون مثلما ناور طويلا مع رفيق الحريري طوال سنوات وسنوات... كما يستطيع شنّ غزوة أخرى لبيروت والجبل على غرار غزوة السابع والثامن من مايو 2008.
هل لدى فرنسا مثل هذه الخطة كي يكون لسياستها منطق متكامل بالفعل يتجاوز مسألة فرض تشكيل حكومة ضمن مهلة معيّنة... الى ما هو اهم من ذلك كلّه بكثير.
الاهمّ من ذلك كلّه، الاعتراف بانّ اللعبة الوحيدة المطروحة في المدينة هي «الحياد» اللبناني او ما سمّاه البطريرك الماروني «الحياد النشط».
مثل هذا «الحياد» شرط يمهّد لإعادة التأسيس ولاصلاحات سياسية حقيقية ومتوازنة في العمق وصولا الى «دولة مدنيّة» تؤمن للبنان، ذي الوجه العربي اوّلا، دخول المئوية الثانية، من قصر الصنوبر ذاته، بعيدا عن التبعية لإيران او لغير ايران.