جورج سمعان
القمة الأميركية - الخليجية منتصف الشهر المقبل يفترض أن تكون الوجه الآخر للمفاوضات الخاصة ببرنامج إيران النووي. هي اعتراف من واشنطن بأن «تفاهم لوزان» لن يكون وحده الأساس لبناء نظام في الشرق الأوسط يقتصر رسمه على الدول الست الكبرى والجمهورية الإسلامية. «عاصفة الحزم» فرضت على جميع اللاعبين أن يأخذوا القرار العربي في الاعتبار. وهذا ما توقف عنده الرئيس باراك أوباما داعماً ومباركاً، وداعياً أيضاً إلى تحرك عربي حيال سورية. ولم يفته بالطبع حضور أهل العاصفة في التحالف الدولي الذي يخوض الحرب على «الدولة الإسلامية». استعاضت المملكة العربية السعودية عن الوهن العربي بالتوجه نحو باكستان وتركيا، أكبر قوتين سنيتين في المنطقة، لتعديل أو ترجيح كفة ميزان القوى مع إيران التي لم تكف طوال سنوات عن طرح نفسها قوة إقليمية كبرى. بل كان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ينذر خصومه بقيام «أمم متحدة» جديدة مع حلفاء بلاده. وسعى على الأقل عبر تمجيده «حلف الممانعة» إلى ترسيخ حلمه بقيادة العالم الإسلامي. لم تنتبه القيادة الإيرانية إلى أن حضورها في الوسط الإسلامي السني الواسع يمر حكماً عبر البوابة السعودية.
القمة المقبلة في كمب ديفيد ستطرح على بساط البحث سبل تفكيك خريطة الهيمنة الإيرانية وانتشارها في العالم العربي. تماماً كما تتقدم المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى نحو تفكيك البرنامج النووي لطهران، وإن لمرحلة ستمتد لنيف وعشر سنوات. راهنت إدارة الرئيس أوباما على أن التوصل إلى اتفاق في هذا المجال سيترك انعكاسات وتداعيات على الوضع الداخلي الإيراني. وربما أدى إلى تغييرات جذرية تدفع «أهل الثورة الإسلامية» إلى التخلي عن طموحاتهم في السيطرة. والسعي إلى استعادة دور بلادهم كدولة في المنظومة الإقليمية والدولية. لكن هناك من يشكك في مثل هذه التغييرات. ويعتقد أن ثمة مبالغة في التفاؤل بإمكان تحولات جذرية في هذا الميدان. والدلالات والمؤشرات إلى ذلك كثيرة. لم ترضخ إيران للتحدي الذي طرحته «الدولة الإسلامية» بوجه حضورها في كل من العراق وسورية. تجربة «التعاون غير المباشر» بينها وبين التحالف الدولي - العربي في مواجهة «داعش» في تكريت وغيرها، لم تشكل منعطفاً أو تؤسس لنموذج تفاهمات مقبلة في أكثر من أزمة إقليمية. لم توح بأن القيادة في طهران مستعدة، على وقع التقدم في المفاوضات النووية، أن تبدل في سياساتها. بخلاف ذلك أوحى الانخراط الإيراني الميداني في معركة تكريت أن «الحرس الثوري» يجهد لإكمال ما توقفت عنده حملة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. أي اختراق المحافظات السنية. وهو ما عده أهل هذه المناطق سعياً إلى تغيير الخريطة الديموغرافية للبلاد. ولذلك تعالت أصوات ترفض مشاركة قوات «الحشد الشعبي» في حرب الأنبار.
أخطأت إيران في رفع مستوى المواجهة مع دول الخليج العربية، خصوصاً المملكة العربية السعودية. لم توقف تقدمها في الشرق الأوسط. استغلت فشل الحروب الأميركية الاستباقية، وتعقيدات الحرب على الإرهاب. وتعثر التسوية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعدم جدوى الضغوط على بنيامين نتانياهو. توسلت القضية الفلسطينية والتوكؤ على المكونات الشيعية في المنطقة من أجل شرعنة حضورها في العواصم الأربع وغيرها من المناطق. فكلما اتسعت هيمنتها عبر «جيوش الميليشيات» التي أنشأتها من لبنان إلى سورية العراق واليمن وعبر خلايا في مناطق خليجية، باتت أقدر على تعويض ما ستقدم من تنازلات في البرنامج النووي. وكان من نتائج مواصلة هذا النهج أن الحرب الباردة تحولت إلى مواجهة مباشرة بلا أقنعة في اليمن. وأبعد من ذلك توسع إطار الصراع مع طهران ليشمل إسلام آباد وأنقرة، بعد مصر والأردن والمغرب وحتى السودان. لم تعتبر الجمهورية الإسلامية من التاريخ القريب: عندما شعرت السعودية بأن غزو صدام حسين الكويت بات يشكل تهديداً لأمنها وسيادتها وحرية قرارها، لم تتوان في طلب الأمن من أصدقائها الأميركيين والأوروبيين الذين انضووا في أكبر تجمع عسكري دولي منذ الحرب الكونية. لم تسمح لصدام بأن يلعب في الوقت الضائع لفرض نفسه نداً أو محاوراً أساسياً وحيداً لأميركا والغرب عموماً في المنطقة. وهي اليوم لم تحشد قوى عشر دول زادت أو نقصت لمواجهة الهيمنة الإيرانية في اليمن، بل حازت تأييداً دولياً واسعاً يشبه ما قام عشية تحرير الكويت، وإن اختلف السيناريو. القرار 2216 منح تحالف «عاصفة الحزم» غطاء شرعياً واسعاً من أعلى سلطة أممية. والمناورات المصرية – السعودية الموعودة تبعث برسالة واضحة إلى طهران تترجم خطاب القاهرة أن أمن دول الخليج جزء من الأمن القومي المصري. ومثلها رسالة باكستان التي أكدت استعدادها لبدء تطبيق بنود القرار الدولي الأخير في مجال المراقبة الجوية والبحرية لمنع شحنات السلاح إلى الحوثيين وأنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
بعد هذه «العاصفة» لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء. لن يكون بمقدور إيران أن تقايض الاتفاق النووي بالسكوت الدولي عن تمددها في العالم العربي. ربطت على نحو مباشر بين الملفين. وأطلقت العنان لطموحاتها مستغلة التركيز الدولي على البرنامج النووي، ومستغلة أيضاً ضعف العرب وانشغالهم بلملمة شتات ما بقي من مؤسسات في هذا البلد وذاك. ولكن بعد قيام التحالف الجديد في شبه الجزيرة العربية بات عليها أن تعيد النظر في سياستها كاملة من أجل إطفاء نار الحرب المذهبية التي تتوسع في الشرق الكبير، والابتعاد عن حافة الهاوية والمجازفة في مواقف غير محسوبة النتائج. وبدل سياسة الصوت العالي والخطابات النارية، ربما عليها العمل مع تركيا، أو مع سلطنة عمان وباكستان من أجل إطلاق حوار تتخلى فيه عن لغة الإملاء والطموحات المثيرة للمخاوف. وستجد نفسها قريباً مضطرة إلى البحث عن مخرج يفتح لها باب التعامل بإيجابية مع شركائها في المقلب الثاني من الخليج تمهيداً لقيام نظام أمني يحفظ مصالح الجميع. إنها تدرك بالطبع أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي قوة إقليمية أو دولية بتهديد مصالحها الاستراتيجية في الإقليم، أو امتلاك القدرة على التحكم بمنابع النفط وطرق إمداده، مهما قيل عن انسحابها من الشرق الأوسط من أجل التركيز على احتواء النفوذ الصيني في المحيط الهادي. ولا ننسى أن سياسة الرئيس أوباما بالابتعاد عن أي مواجهة ميدانية جديدة أحلّ مكانها الدفع بالشركاء الإقليميين إلى تولي هذه المهمة بدعم أميركي واضح. وهذا ما يحصل حيال «عاصفة الحزم». إضافة إلى «الدرع» الصاروخية والقواعد الأميركية... والأوروبية المنشورة في المنطقة.
الأهم من كل ذلك أن الحلف الجديد الذي أطلقته «عاصفة الحزم» بدأ يجني ثماره ليس في اليمن فحسب، بل في ساحات أخرى. ففي العراق لم يألف العالم سماع رئيس الوزراء في بغداد حيدر العبادي ينتقد التركيز على دور «الحرس الثوري» وقاسم سليماني، لأن ذلك في رأيه تقليل من دور القوات العراقية. ومع تكرار شكره لإيران ومساعدتها في مواجهة الإرهاب، إلا أنه طلب منها احترام سيادة العراق. ولا شك في أن إصراره في واشنطن على استعجال تسليح القوات النظامية يشي بمخاوف من اشتداد قبضة «الحشد الشعبي» الذي قد يتحول مع الوقت إلى جيش رديف أقوى وأخطر من المؤسسة العسكرية الرسمية. بالطبع لن يتحول العبادي معادياً لطهران، لكنه يتظلل بمواقف المرجع الأعلى في النجف السيد علي السيستاني الذي يفترق عن الجمهورية الإسلامية في كثير من المواقف. كما أن إصرار أهل المحافظات السنية على رفض إشراك «الحشد الشعبي» في حرب الأنبار، على رغم غلبة كفة «داعش»، دليل آخر على المعارضة التي يلقاها التدخل الإيراني.
وإذا كانت إيران مطمئنة إلى حدود ما قد يطرأ على هيمنتها في العراق، فإن ما يحصل في سورية سيؤدي تطوره إلى تعريض حضورها. فليس مفاجئاً أن تحقق فصائل المعارضة إنجازات كبيرة في الجنوب، من بصرى الشام إلى معبر نصيب إلى منطقة السويداء. وفي الشمال من إدلب وريفها إلى حدود ريف حلب، وفي محيط العاصمة دمشق. مثل هذه الإنجازات لم يكن ليتحقق لولا دعم قوى إقليمية هي جزء من تحالف «العاصفة». فهل الهدف إعداد الساحة لتسوية؟ يمكن التكهن بأن عناصر التسوية السياسية في اليمن يمكن سحبها على التسوية في سورية. بمعنى أن ما سيحصل عليه الحوثيون في صنعاء يحصل على مرادفه علويو سورية. خلاصة القول إن إيران ليست تلك القوة التي لا تقهر. بدأت تدرك أن لقوتها وشهوة الاستئثار حدوداً لا يمكن تجاوزها. لذلك كان لا بد من قرار عربي - إسلامي واسع يواكب المفاوضات الدولية لوقف البرنامج النووي الإيراني بحملات ميدانية لوقف الهيمنة وتقليصها.