جورج سمعان
كلما تمددت «الدولة الإسلامية» ازدادت الحرب على الإرهاب تعقيداً. وبات القضاء على تنظيماته رهن تسويات وحلول لأزمات قديمة أو جديدة مستعصية. لم تعد الحملات العسكرية هي الرد الوحيد والعلاج الناجع على جماعة راديكالية تجاوزت تنظيم «القاعدة» وبرنامجه في نشر فروع للتنظيم إلى إعلان دولة لا تعترف بالحدود الجغرافية وبالمفهوم الحديث للعلاقات بين الدول، ولا بالأعراف التي تحكم بين المكونات المختلفة للمجتمعات. الجدل القائم حول سبل مواجهة «التنظيم» الإرهابي في ليبيا لا يكشف جديداً، بمقدار ما يكرس قواعد يصعب توافرها لقيام مواجهة دولية شاملة وناجعة للقضاء على الجهاديين والمتطرفين. استجابة المساعي المصرية للرد على التحدي الخطير على حدودها الغربية بات رهن توافق القوى السياسية الليبية على حكومة اتحاد وطني. هذا ما تريده صراحة الولايات المتحدة ودول أوروبية ودول عربية مثل الجزائر وتونس وليس قطر فحسب التي تجدد الخلاف بينها وبين مصر.
ربط التوافق على عناصر المواجهة مع «داعش» بتسوية سياسية يحمل في طياته مجازفة كبيرة. لن يكون الوقت عاملاً مساعداً. فماذا لو أرسى «داعش» من سرت ودرنة نوعاً من الوحدة أو التفاهم مع «أنصار الشريعة» في بنغازي؟ ماذا لو توافق الطرفان على توحيد الجهود والعمليات مع فروع «القاعدة» في مالي ودول الصحراء وجماعات «بوكو حرام» الناشطة في وسط أفريقيا؟ ستكون لها بلا شك «دولة إسلامية» بحجم «دولة أبي بكر البغدادي» في بلاد الشام وربما أكبر إذا تمددت نحو «الشباب المجاهدين» في القرن الأفريقي والصومال. لكنها تتجاوزها خطراً ليس على دول الجوار فحسب، بل على أوروبا التي تجاهد يومياً لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين. فقد يحمل هؤلاء في مراكبهم غداً جهاديين يتمثلون بما فعل زملاؤهم في باريس وكوبنهاغن. ولم يبالغ رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس في تحذيره من «التهديد المباشر الذي يمثله قيام معقل جديد للجهاد الإرهابي تحت أعيننا وليس بعيداً من حدودنا». يقصد «داعش» ليبيا.
لا تضع الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى قواعد جديدة لإطلاق الحرب على التنظيم الإرهابي في ليبيا. لكنها لا تعتمد أيضاً على معايير واحدة موحدة. عندما قامت «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية. تمسكت الإدارة الأميركية بشروط سياسية عدتها ضرورية لقيام التحالف الدولي - العربي الحالي. أصرت على تغيير حكومة نوري المالكي الذي حمله الرئيس باراك أوباما متأخراً مثلما حمل الرئيس بشار الأسد مسؤولية نمو التطرف وانتشاره وقيام «الدولة الإسلامية». وضع قواعد وشروطاً غير عسكرية يجب توافرها قبل شن الحرب على الإرهاب. وهكذا لنجاح الحملة في العراق لا بد من أن يصلح حيدر العبادي وحكومته ما أفسده سلفه في الحياة السياسية ومفهوم الشراكة والمحاصصة. ولتفعيل الغارات على التنظيم في سورية لا بد من تسوية لأزمة هذا البلد، وإيجاد شريك على الأرض. وحتى ذلك الحين لا بأس بخطة طويلة الأمد تقوم على تدريب مجموعات «معتدلة» للمساعدة في احتواء «داعش» ووقف تمدده وليس ضرب النظام في هذه المرحلة. وهكذا مثلاً، لقتال «بوكو حرام» في أفريقيا شمالاً ووسطاً لا بد من التنسيق مع نيجيريا، وتفعيل قرارات قمة ياوندي وبناء القوة المشتركة للكاميرون وتشاد والغابون والكونغو وغينيا الاستوائية وجمهورية أفريقيا الوسطى. على غرار التحالف في بلاد الشام. وعلى غرار قوات البعثة الأفريقية التي تقاتل حركة «الشباب المجاهدين» في الصومال. وعلى غرار ما كان في أفغانستان. حيث هناك حكومة مركزية يمكن البحث في تجنيد الحملات. أما في غياب التوافق الداخلي فلا بد من الانتظار!
ما يسري على سورية يسري إذاً على ليبيا. لا بد من التسوية السياسية أولاً، وإن كانت شكلية، إذ إن التغيير السياسي في بغداد ظل إلى اليوم قاصراً عن الأهداف التي توختها الإدارة الأميركية. والدليل أن القوى السنّية تتردد في خوض الحرب، بل تتعالى الاتهامات من منظمات دولية وقوى محلية، رسمية وأهلية لميليشيات «الحشد الشعبي» بارتكاب جرائم حرب. وتحذر من سياسة واضحة بغية تغيير ديموغرافي في مناطق كثيرة حتى تلك التي لم يصل إليها «داعش». أبعد من ذلك، يتحدث أهل «التحالف» عن غياب الاستراتيجية الواضحة لهذه الحرب وأهدافها النهائية. التحالف يضم دولاً لا تشارك في الحملة (قطر وتركيا...) أو تشارك على طريقتها وهواها، وبعضها يشارك بانتظار أن تساعده الظروف على فرض أجندته. فيما تنخرط في الحملة دول وقوى (إيران وميليشيات شيعية) هي خارج صفوف التحالف.
ما دامت ليبيا لم تهتد إلى حكومة وحدة وطنية وإن شكلية، فلن يهتدي المتضررون من «داعش» إلى ما يقيهم خطر الإرهاب. يجب استعجال نجاح المصالحة بين المتصارعين في الشرق الليبي وغربه وما بينهما. وعلى مصر والجيران الآخرين أن يتريثوا، وإن دهمتهم متاعب ومشاكل ومجازر. لن يسمح المجتمع الدولي برفع حظر السلاح عن الحكومة الشرعية وجيشها الوطني. تخشى دول غربية أن يستخدم السلاح في الصراع بين القوى التي تتنازع السلطة وتتقاتل للسيطرة على النفط، حقولاً ومنابع وطرق وموانئ تصدير... يجب أن ينتظر الجميع نجاح مهمة المبعوث الدولي برناردينو ليون. الليبيون منقسمون سياسياً وعسكرياً وجهوياً وقبلياً. الخلاف بين قوتين تزعم كل منهما احتكار الشرعية. وتحول نزاعهما قبلياً وجهوياً. وتركز في بنغازي، وفي محيط العاصمة طرابلس، وفي مناطق جنوبية. ليس بين قبائل بعينها ككتل واحدة. ثمة قوى من الشرق والغرب تقف مع حكومة عبدالله الثني والبرلمان المنتخب أخيراً. ومثلها قوى من الشرق والغرب تقف مع المؤتمر الوطني الذي انتهت ولايته والحكومة التي تنبثق منه. وواضح أن هذه القوى والتيارات تتلكأ في الحوار، بانتظار أن يحقق طرف خرقاً أو انتصاراً كبيراً على الطرف الآخر يعزز موقفه التفاوضي. أو بانتظار توافقات خارجية تدعم هذا الطرف أو ذاك.
في ظل هذا الانقسام لا يمكن الليبيين أن يجمعوا على تدخل خارجي، حتى وإن كان مصرياً. ومثل هذا التدخل سيضعف القوى السياسية التي تلتف حول الجيش الوطني واللواء خليفة حفتر. وأصلاً مثل هذا التدخل ليس وارداً. وليس في برنامج الرئيس عبدالفتاح السياسي وحكومته أي توجه نحو تدخل ميداني في أزمة ليبيا. فالقوات المصرية تخوض مواجهتها الخاصة في سيناء ومدن مصرية أخرى، ولا يمكنها أن تتحمل حرب استنزاف قد يكون ثمة من يسعى إلى جرها إليها. لذلك، تركز القاهرة على حض أوروبا على التدخل وإكمال المهمة التي كان «الناتو» بدأها وتوقفت مع إسقاط العقيد القذافي. لا تريد أن تتدخل، مثلها مثل الجزائر التي لا تزال تتذكر صور حربها الأهلية. ولا تزال تتذكر ما حصل قبل سنتين في الهجوم الإرهابي على المجمع الغازي في أميناس بالصحراء. ومثلها مثل تونس التي تسعى إلى تمتين جبهتها الداخلية سياسياً للوقوف في وجه المتطرفين المقيمين والوافدين عبر حدودها البرية.
تمدد الإرهاب في ليبيا يطرح أخطاراً جمة على دول الجوار كلها، وعلى مصر خصوصاً. وبدأ يؤثر في أمنها واستقرارها. الأبواب مفتوحة أمام العناصر والسلاح إلى سيناء وغيرها. والغارات على مواقع «داعش» في درنة ليست تغييراً في سياسة القاهرة الحذرة جداً من التدخل وتداعياته. لا تود الخوض في وحول الوضع الليبي. ما تريده هو أن يقف العالم خلف البرلمان المنتخب حديثاً وحكومته والجيش الوطني. لا تريد رؤية «الإخوان» يعودون إلى صدارة المشهد كما كانت حالهم مع قوى الإسلام السياسي الأخرى في المرحلة الانتقالية والمجلس الوطني. إنها تبحث عن غطاء ودعم دوليين لخليفة حفتر. في حين أن القوى الغربية لا ترغب في أن تخلط بعض الأنظمة العربية بين موقفها من الإرهاب وموقفها من معارضيها الآخرين سواء كانوا إسلاميين من «الإخوان» أو غيرهم. لا تريد مصر الانخراط ميدانياً. حتى الغارات الجوية التي أدت أغراضها في الداخل المصري وهدأت من روع الأقباط، قد لا تتكرر. تخشى أن يكون ما أقدم عليه تنظيم «داعش» بذبحه مصريين أقباطاً مجرد فخ لاستدراجها وإنهاكها وإلهائها. في حين لا يغيب عن بال المصريين ما يحدث في اليمن. لا يريدون تكرار تجربة عبدالناصر والتدخل عسكرياً في هذا البلد أو ذاك. واستعجالهم صفقة الطائرات مع فرنسا هدفه الاستعداد لأي تطورات قد تعرقل الملاحة من باب المندب إلى قناة السويس. فيما النظام وحكومته يعلقان آمالاً كبيرة على إنجاز القناة الثانية في السويس من أجل رفع الدخل القومي للبلاد ومعالجة الأزمة الاقتصادية.
ربط قيام حروب شاملة وحاسمة على الحركات الإرهابية بالتسويات السياسية وصفة لإطالة عمر هذه الحروب والحركات. فالأزمات في الشرق الأوسط وفضائه بعضها مقيم وبعضها الآخر مستجد أو متجدد. وإذا كان النصر على «الدولة الإسلامية» وفروعها ومثيلاتها لن يتحقق قبل حل كل هذه الأزمات، فإن دولة «أبي بكر» ستعمّر بحدودها المفتوحة في كل اتجاه. إذا كان المذعورون من سيوف «داعش» لن ينتظروا حل القضية الفلسطينية، فإنهم بالتأكيد سيظلون على خوفهم إلى أن تنطفئ نار الصراع المذهبي في الإقليم وتقوم الخريطة الجديدة لدوله ومستقبل مكوناته العرقية والجهوية والقبلية، خصوصاً الدينية «الداعشية» وغيرها. وإلى أن تتوافق الدول الإقليمية من إسرائيل وإيران وتركيا على عناصر أمنها الوطني ومصالحها. وتضمن الدول الكبرى مصالحها الاستراتيجية في المنطقة... وحتى ذلك الحين لا بد من أن يتكيف العالم مع «دولة الخلافة» وانتشار «الدواعش» في طول المنطقة وعرضها.