جورج سمعان
نجح اللواء المتقاعد خليفة حفتر هذه المرة. نجح في استنهاض المؤسسة العسكرية التي عانت وحداتها التهميش والإهمال والترهيب أحياناً في عهد معمر القذافي. ولم يكن حالها أفضل بعد «الثورة على الجماهيرية». تعرض ضباطها وعناصرها للمطاردة والترهيب والاغتيالات. لم يلق اللواء الذي أمضى حوالى ثلاثة عقود في منفاه الأميركي، التأييد للحؤول دون التمديد للمؤتمر الوطني (البرلمان) بعد انتهاء ولايته في السابع من شباط (فبراير) الماضي. «انقلابه التلفزيوني» منتصف ذلك الشهر لم يترجم عسكرياً على الأرض، بخلاف التأييد الذي تحصده هذه الأيام «حملة الكرامة» في معظم المدن الليبية، وفي أوساط قبائل وازنة وقوى سياسية وطنية وليبرالية همشتها الميليشيات المسلحة الإسلامية المتطرفة والأحزاب الإسلامية، فضلاً عن أكثرية الفرق والقوى العسكرية المختلفة التي كانت تشكل جيشاً يربو على مئة ألف ضابط وعنصر، لم تلق يوماً الاهتمام الذي كانت تلقاه فرق أنشأها القذافي على قياس أفراد عائلته وأقربائه ليضمن حماية نظامه.
نجح اللواء حفتر في إعادة خلط الأوراق والمواقف السياسية في ليبيا بعدما بدا في الشهور الأخيرة أن «حزب العدالة والبناء» يكاد يستكمل إمساكه بالمفاصل الأساسية للمرحلة الانتقالية. وهو استعجل نهج «التمكين» على غرار ما فعله نظيره المصري الذي أسقطته «الثورة الثانية» في 30 حزيران (يونيو) الماضي. ومعروف أن «إخوان» ليبيا لم يوفروا أكثرية في المؤتمر الوطني الموقت. حلّوا في المرتبة الثانية بعد «تحالف القوى الوطنية». لم يرتضوا هذا الموقع حتى دفعوا بإقرار قانون «العزل السياسي» بمساعدة الإسلاميين الآخرين والميليشيات. فتحقق لهم تهجير كثيرين من خصومهم، وتكبيل أيدي منفيين عائدين، وتحييد كثيرين خدموا في إدارات «الجماهيرية» مرغمين في ظل ديكتاتورية لم تترك خياراً لأحد. وفتحوا معارك لم تتوقف مع حكومة علي زيدان ونجحوا في نفيه بعد خطفه. وحتى خلفه في تصريف الأعمال عبدالله الثني لم يسلم من التهديد... حتى كان لهم رئيس الوزراء الجديد أحمد معيتيق الذي لم يفلح في لم شمل البرلمان لنيل الثقة، بعد اعتراض كثيرين أصلاً على طريقة اختياره وعدم شرعية هذا الاختيار في برلمان موقت مددوا لسلطتهم فيه منذ السابع من شباط الماضي.
وما سهل للقوى الإسلامية ضرب الحياة السياسية عدم وجود مؤسسة عسكرية متماسكة وقوية. فقد سعى «المجلس الوطني الانتقالي» في البداية، ثم المؤتمر الوطني إلى دمج التنظيمات المسلحة و «درع ليبيا» تحت عباءة الجيش الوطني. وحولته جيوشاً موازية تأكل من خزينة الدولة، لكنها لا تأتمر بأوامرها بل تتبع مباشرة أمراءها ومناطقها وقبائلها ومدنها. وأدخلت قوى أخرى مماثلة إلى «الغرفة الأمنية» لوزارة الداخلية. والأخطر من ذلك أن هذه الميليشيات تسلمت رسمياً أمن العاصمة والمدن والدساكر والمناطق تبعاً لانتسابها القبلي أو الجهوي أو الحزبي أو المديني. وهو ما أتاح فضاء مفتوحاً بلا رقيب للمتشددين من جماعات «القاعدة» و «الجبهة المقاتلة». وهكذا فيما كان «الإخوان» يتمكنون من البرلمان والحكومة على المستوى السياسي، راحت التنظيمات المسلحة تتقاسم السلطة على الأرض وعائدات النفط مباشرة، وتعيث تهديداً وترويعاً للمواطنين والبعثات الأجنبية، وتطارد ضباطاً وعناصر من الجيش والشرطة.
زاد في استعجال «إخوان» ليبيا التطورات التي شهدتها مصر بعد إسقاط الثورة الثانية حكم «إخوانهم» في مصر. لم يعتبروا ويتبصروا كما فعلت جارتهم «النهضة» التي ارتضت أن تكون شريكاً سياسياً مع القوى الأخرى في تونس لئلا تواجه مصيراً مماثلاً لجماعة محمد مرسي، فأثبتت حضورها لاعباً أساسياً لا يمكن تجاهله أو شطبه من اللعبة السياسية الجديدة. توكأت القوى الإسلامية الليبية على قوة الميليشيات لتحقق سريعاً ما لم تستطع تحقيقه في صندوق الاقتراع. ولا شك في أن حركة اللواء حفتر الذي تلقى دعم جميع المتضررين، مباشرة أو مداورة أو «حياداً»، من «تحالف القوى الوطنية» إلى وحدات الجيش الوطني، إلى الهيئة التأسيسية لصوغ الدستور المنتخبة حديثاً وما بقي من حكومة زيدان - الثني. لا يعني هذا بالتأكيد أن «حملة الكرامة» تعبير عن صراع أيديولوجي واضح وصريح كما هي الحال في تونس أو مصر تحديداً، أي صراعاً بين تيار ليبيرالي وآخر إسلامي «إخواني وسلفي». ثمة خصوصية للوضع الليبي. وراء تحرك تنظيمات عدة دوافع قبلية وجهوية ومدينية هي رواسب ما عانته هذه المكونات من حرمان وتسلط أيام حكم القذافي. لذا، لا يصح هنا إسقاط «نموذج السيسي»على ما يجري في ليبيا، وإن كان اللواء حفتر يستلهم تجربة جاره الكبير. وإن رفع بعض أنصاره شعار «حركة تمرد» ليبية. وقد لا يتنهي مآل الأحداث إلى ما انتهت إليه «الثورة الثانية» في مصر.
ونجح اللواء حفتر في إعادة ليبيا إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي، كما لو أنها عشية اندلاع ثورة ثانية، على غرار ما حصل في مصر. لذلك، لم تجد حركة «النهضة» التونسية وصفاً تطلقه على ما يجري في الدولة الجارة سوى القول إنه «استنساخ» لتجربة السيسي. ولم يختلف موقف الرئيس التونسي منصف المرزوقي عن موقف الحركة التي نادراً ما تصدر مواقف تتعلق بمواقف خارجية. في حين ذكر وزير خارجيته أن سياسة بلاده اعتادت ألا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكنها «تحترس من النتائج». ومعروف أن كلا البلدين الجارين لا يمكن أن يكون بمنأى عن التأثيرات المتبادلة سلباً أو إيجاباً. وهي قاعدة قديمة متجددة. فعندما كانت طرابلس تحت الحصار الدولي في تسعينات القرن الماضي شكلت تونس متنفساً لليبيين ومنتجاتهم. وفتحت «الجماهيرية» أبوابها للعمالة التونسية كما فتحتها أمام المصريين واستثماراتهم. وتشكل الحدود المفتوحة بين البلدين هاجساً يومياً لتونس التي فرت منها الجماعات التكفيرية بعد عمليات عنف وتفجيرات واغتيالات. واتخذت لها مواقع في الغرب والجنوب الليبيين حيث تتولى تدريب كثير من التونسيين والمغاربيين عموماً ومن دول الساحل، وإعدادهم للتوجه إلى القتال في سورية وأماكن أخرى. ولا يمكن تجاهل وجود أكثر من مليون و900 ألف ليبي في الأراضي التونسية فروا من الفوضى وأعمال الثأر...
ولم يكن موقف الجزائر أقل اهتماماً أو قلقاً. سحبت بعثتها الديبلوماسية من طرابلس، وأعلنت قيادتها العسكرية حال الاستنفار على الحدود مع ليبيا حيث نفذت طلعات جوية مع تونس على طول المثلث الحدودي. واستقبلت منتصف الأسبوع الماضي وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان للتنسيق في شأن الأوضاع في ليبيا وشمال مالي التي عاد الاضطراب إلى شمالها، والذي يهدد دول الساحل الأخرى من موريتانيا إلى النيجر. ولا تخفي فرنسا والدول الأوروبية التي هالها ما ترتكبه جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا، أن تقع دول الشمال الأفريقي والساحل بين فكي كماشة: من الجنوب «بوكو حرام»، ومن الشمال تنظيم «المرابطون» أو «الموقعون بالدماء» و «حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» و «أنصار الشريعة» وقوى أخرى متطرفة تنشط على الشريط الممتد من الجزائر وتونس وليبيا إلى مصر وسينائها، مروراً بشمال مالي والنيجر.
وعقدت اجتماعات أمنية وسياسية بين مسؤولين من مصر وتونس والجزائر تولت بموجبها الأخيرة قيادة عملية مراقبة ما يجري في ليبيا. وقد نقلت آلاف المقاتلين إلى الحدود لتكون جاهزة للتعامل مع أي طارئ. وكان المشير السيسي حذر من انهيار الدولة في ليبيا. وجه رسالة واضحة إلى الغرب الذي تدخل لإطاحة القذافي، وتوقف عند هذا الحد من دون مساعدة الحكم الانتقالي على إعادة بناء أجهزته العسكرية والأمنية.
ولعل موقف واشنطن هو الأكثر حراجة. تحولت الأوضاع في ليبيا قضية داخلية تضاف إلى قضايا الصراع السياسي بين إدراة الرئيس باراك أوباما وخصومها الجمهوريين الذين يطالبون بجلسة خاصة لإعادة البحث في ملابسات مقتل السفير الأميركي في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012. ويمكن هذا النقاش أن يلحق ضرراً بوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي تستعد لخوض السباق الرئاسي، إذ يتهمها بعض الجمهوريين بأنها أخفت الكثير من المعلومات عن هذا الحادث. لكن الموقف الأكثر دلالة على اهتمام واشنطن بما يجري في هذا البلد الأفريقي هو تحريك البنتاغون قوات من المارينز من قاعدتهم الإسبانية إلى صقلية لتكون على مرمى حجر من التراب الليبي تحسباً لأية تطورات قد تستدعي تدخلاً أو دعماً ما، خصوصاً لقوات اللواء حفتر. فمما لا شك فيه أن واشنطن مثلها مثل أوروبا بدأ يقلقها تحول ليبيا مرتعاً لقوى التطرف والجهاديين. وقد أعلنت السفيرة الأميركية في طرابلس ديبورا جونز ولم تخف مشاعرها عندما بررت للواء المتقاعد الذي «يقاتل مجموعات محظورة بالنسبة إلينا»، «وهو لم يعلن أنه يريد حكم البلاد، والليبيون يرحبون بما يقوم به، إلا أنهم لا يرديون ديكتاتوراً جديداً».
الحكومة الموقتة اقترحت تعليق عمل البرلمان الموقت الممد له بعدما كان اللواء حفتر دعا هيئة صوغ الدستور إلى تسلم صلاحياته حتى إجراء انتخابات برلمانية جديدة سريعاً. وعدت بعثة الأمم المتحدة إلى طرابلس مبادرة عبدالله الثني «جديرة بالنقاش». فهل يستمع «الإخوان» وشركاؤهم من أمراء الميليشيات والقبائل والعشائر والمدن إلى صوت العقل ويتجهوا نحو المصالحة؟ وهل تنجح مخاوف جيران ليبيا والمجتمع الدولي في توحيد الجهود لإنقاذ ليبيا من أهلها وإنقاذ المنطقة كلها من السقوط بأيدي جماعات الجهاد والتكفير؟ هل يمكن الليبيين أن يحذو حذو المصريين نحو ثورة ثانية بعدما بدأ «الإخوان» يتحسسون رقابهم؟ استنسخ القذافي «ثورة 23 يوليو» ويحاول حفتر استنساخ «ثورة 30 يونيو»! التاريخ يعيد نفسه...