جورج سمعان
السياسة الأميركية عليلة. والشرق الأوسط كله عليل أيضاً. ضعف هذه السياسة أو غيابها أو تراجعها لم يترجم قوة للدول الإقليمية الكبرى. الفراغ الذي يخلّفه انسحاب الاهتمام الأميركي بالمنطقة لم تملأه قوة بديلة وإن خال بعضهم خلاف ذلك. فلا خصوم الولايات المتحدة ولا حلفاؤها أو شركاؤها أبدوا قوة غير معهودة في مواجهة التطورات الأخيرة. كشفت الحرب على غزة، مثلما كشفت التطورات الأخيرة من ليبيا إلى سورية والعراق، أن اللاعبين الإقليميين الكبار ليسوا أكثر قدرة من الرئيس باراك أوباما. أو أقل ارتباكاً وضياعاً. كشفت أن غياب واشنطن وعزوفها عن تحريك التسويات ولّدا استعصاء سياسياً في معظم عواصم المنطقة تجلت أبرز صوره في حروب «داعش» المفتوحة على كل الاتجاهات والحدود الشامية، إلى حرب القطاع وحروب ليبيا التي تهز الشمال الأفريقي برمّته.
مصر اليوم محور الاتصالات الديبلوماسية القريبة والبعيدة لتهدئة الوضع في قطاع غزة. لا ترغب في أن يُلقى القطاع في حضنها فيراكم مشاكلها الداخلية. لكنها لا يمكن أن تستقيل من مسؤولية ما يجري على حدودها الشرقية. ساهم سقوط نظام «الإخوان» في انكشاف «حماس» التي وجه إليها النظام الجديد في القاهرة شتى الاتهامات. ولم يتوقف الجيش المصري، حتى في الحرب الحالية، عن تدمير الأنفاق التي استخدم ويستخدم بعضها لإيصال السلاح الإيراني إلى القطاع. ويسوق المصريون اتهامات إلى «حماس» بأنها وراء السلاح الذي يواجهونه في شبه جزيرة سيناء وغيرها من الدساكر والساحات. ولم تسلم مبادرتها لوقف الحرب من النقد الإيراني والتركي وغيرهما. ثمة قوى أخرى تنازعها القرار والنفوذ والتأثير.
وضعت «حماس» نفسها في جبهة تركيا - قطر من دون أن تدير الظهر لمصر. لأنها تدرك جيداً أن لا معنى لفك الحصار عن القطاع من دون دور للقاهرة. لكن تناغمها مع مبادرة الدوحة التي دعمتها أنقرة بعد انتقادها الدور المصري أعاد هاتين الدولتين لاعبين حاضرين إلى المشهد السياسي في المنطقة. ناشدهما وزير الخارجية الأميركي جون كيري التدخل لدى الحركة للإفراج عن الضابط الإسرائيلي الأسير. وكان قبل ذلك التقى وزيري خارجية البلدين في الاجتماع الوزاري الذي عقد في باريس قبل أيام، في غياب مصر، لمناقشة سبل وقف القتال وترسيخ التهدئة في القطاع. ألا يكفي هذا للاعتراف بدور الدولتين إلى جانب دور القاهرة التي تلقى دعماً من المملكة العربية السعودية ودول عربية وخليجية أخرى؟
الواقع أن القيادة المصرية الجديدة تجد نفسها في موقع لا تحسد عليه. نظرة إلى حدود البلاد مع جيرانها تكفي لرسم صورة التحديات التي تواجهها. يكاد الحصار أن يطبق على أرض الكنانة. إذا نجحت القوى الإسلامية المتشددة الليبية وميليشياتها في فرض سيطرتها على البلاد وهزيمة القوى الأخرى السياسية والعسكرية، سيكون على مصر أن تخوض معركة مضاعفة مع «الإخوان» وحركات التطرف الأخرى. بهذا المعنى ليست غزة بحركاتها وعلاقاتها هي التحدي أمام القاهرة. هناك أيضاً ليبيا وحدودها المفتوحة لكل أنواع السلاح والعتاد والتهريب. وهذا تحدٍ آخر كبير لمصر. وسيعني ذلك أن محوراً عربياً وإقليمياً يساند «الإخوان» سيشغلها طويلاً عن قضاياها الداخلية ويفاقم المشاكل الأمنية. غزة امتحان قاس لنظام الرئيس عبدالفتاح السياسي، وليبيا امتحان لا يقل قساوة. فإذا نجح في رفع التحدي في وجه هاتين القضيتين يمكن بعدها الحديث عن عودة القاهرة إلى أداء دورها الإقليمي الفاعل. ويمكن بعدها الحديث عن حضور لا يمكن تجاهله في مواجهة السياسة التركية والإيرانية في المشرق العربي. فهل تقدر القاهرة على هذا الدرب الطويل، في ظل متاعب لا تقل إلحاحاً، من أزمة السد الأثيوبي على النيل إلى الأزمات المتناسلة في السودان، حديقتها الجنوبية؟ وهل تملك من أسباب القوة ما يكفي لهذه المهمات الشائكة؟
أما القوى الإقليمية الأخرى فليست أفضل حالاً من مصر. لا يمكنها تالياً أن تتباهى بالكثير. حمل القضيتين الفلسطينية والليبية ليس بالسهل على أكتاف مصرية أنهكتها ثلاث سنوات من التدهور الأمني والاقتصادي والاجتماعي. كذلك إن حماية نظامي بشار الأسد ونوري المالكي ومواصلة رعاية الأوضاع في اليمن والبحرين ولبنان ليس بالحمل الخفيف على إيران التي يكفيها اقتصاد يشارف على الانهيار. فيما قوى تناصبها العداء تشكل تهديداً يومياً للنظامين في بغداد ودمشق. ناهيك عن الصراع المفتوح بينها وبين دول عربية وازنة لن تسلم لها بما تملك من أوراق عربية أو تستسلم أمام نفوذها وطموحاتها. لم تغب الجمهورية الإسلامية عن القطاع، أو توقف دعمها وإمدادها «حماس» والفصائل الأخرى بكل أنواع العتاد، على رغم القطيعة السياسية مع الحركة التي وقفت قيادتها مع خصوم النظام السوري وخرجت إلى الدوحة وانحازت إلى مصر إبان حكم الرئيس محمد مرسي.
وكشفت تعليقات المسؤولين الإيرانيين ومواقفهم من العدوان على غزة رغبتهم في العودة إلى تصدر صورة المدافعين عن القضية الفلسطينية، لعل ذلك يساهم في استعادة شيء مما خسروه في الشارعين العربي والإسلامي بسبب موقفهم مما يجري في العراق وسورية وحتى في اليمن ولبنان. و «حماس» من جانبها ترغب في إعادة وصل ما انقطع معها، أملاً في تعويض ما استنزفته الحرب الحالية وتستنزفه من صواريخ وأعتدة وذخائر. هي تتوكأ على دعم قطر وتركيا ولكن يصعب عليها أن تتوقع منهما دعماً تسليحياً لأسباب كثيرة. تكتفي بمساندتهما السياسية والمالية. علماً أن العلاقات بينها وبين طهران ستظل محكومة بأولوية العلاقة مع الدوحة وأنقرة. لا يمكن الحركة أن تذهب بعيداً في مماشاة السياسة الإيرانية التي تتواجه وسياستي العاصمتين في الساحتين السورية والعراقية. إلى هذه الاعتبارات لا يمكن الحركة أن تدير ظهرها لمصر. مفتاح معبر رفح في يد القاهرة. لا يمكن حسن روحاني أو رجب طيب أردوغان ولا غيرهما ان يرث محمد مرسي. هذا الدور لمصر أياً كان على رأس السلطة. مصر الباب الأساس للخروج من حال الحصار. من هنا إن مهمة إقامة حد أدنى من التوازن في التعامل مع هذه الحقائق لن يكون بالأمر اليسير على حركة «حماس». ستظل الغلبة في قضية القطاع لموقف القاهرة.
وهناك وقائع جديدة على الأرض تحول دون حرية التحرك الإيراني نحو القطاع كما كانت الحال في السنوات الثلاث الماضية، خصوصاً أيام حكم الرئيس مرسي. يخوض الجيش المصري حملة واسعة في سيناء ويواصل تدمير الأنفاق على حدوده مع القطاع ويشدد اجراءاته لمنع وصول السلاح الإيراني وغير الإيراني إلى الفصائل الفلسطينية. وتصر القاهرة على التعامل مع السلطة في رام الله وليس مع الفصائل. أكثر من ذلك إن مواصلة طهران سياستها السابقة في توريد السلاح إلى «حماس» وغيرها قد يزيد المفاوضات في الملف النووي تعقيداً. ستتسع المعارضة الدولية لإبرام اتفاق يسمح برفع العقوبات عن دولة تمد حركات يصنفها الغرب «إرهابية». حتى الآن يرفض المفاوض الإيراني مع الدول الست الكبرى البحث في الملفات الإقليمية، لأن ذلك يعني وضع دور الجمهورية الإسلامية ونفوذها في المنطقة على طاولة البحث. تفضل أن تحصر الاهتمام بالملف النووي لئلا تتداخل القضايا الإقليمية وتضيف مزيداً من التعقيدات إلى هذا الملف.
إلى التزاحم على الإمساك بورقة غزة، تلقت إيران صفعة قوية في العراق. فالجيش الذي بناه حليفها نوري المالكي وأنفق عليه بلايين الدولارات انهار كنمر من كرتون أمام بضعة آلاف من المقاتلين المتطرفين. وأتاح لـ «الدولة الإسلامية» أن تسيطر على مساحة شاسعة من العراق وسورية، بعد استيلائها على كميات هائلة من السلاح والعتاد والذخائر. وهو ما ساعدها وساعد بقية فصائل المعارضة السورية على رفع وتيرة مواجهتها لنظام الرئيس بشار الأسد في الرقة ودير الزور وريف حلب وغيرها من المناطق. أي أن انهيار «جبهة المالكي» عرّض «جبهة الأسد» لمزيد من المتاعب والتحديات. وإذا قيّض لإسرائيل أن تفرض شروطها لوقف الحرب في غزة، تكون طهران واجهت أيضاً متاعب مضاعفة في الساحة الفلسطينية. ولا شك في أن تفاقم هذه الأزمات وتعقيداتها سيجعلها عاجلاً أو آجلاً بنداً رئيساً في المحادثات النووية. لأن تجاهل البحث في تسويات وإن موقتة للقضايا الإقليمية التي تزداد اشتعالاً سيترك آثاره على هذه المحادثات.
وليست تركيا أفضل حالاً. تعيش على وقع ما يجري خلف حدودها الشرقية والجنوبية من حروب مفتوحة تتعزز فيها مواقع قوى التطرف... وقوى الكرد الذين لم يتخلوا ولن يتخلوا يوماً عن حلمهم في دولة مستقلة. هذا حتى لا نتحدث عن الصراع الداخلي القاسي بين حزب العدالة والتنمية وخصومه السياسيين من قوى مذهبــية وإسلامية وقومية وعلمانية وأجهزة عسكرية وأمنية. يراهن رجب طيب أردوغان على مهمة صعبة. يراهن على أداء دور مرسوم جغرافياً وتاريخياً لمصر. يسعى إلى قيادة حوار بين «حماس» وإسرائيل لعل ذلك يقدمه إلى الشعب التركي حامياً لقضية الشعب الفلسطيني. وهو ما قد يعزز حملته الانتخابية المقبلة نحو الرئاسة. ويصرف الأتراك عن القضية الكردية، وقضايا الفساد والهيمنة وقمع الحريات الذي يمارسه. لكن دون أمنية زعيم حزب العدالة والتنمية عقبات. دونها قوى لا يروق لها مثل هذا الدور لأنقرة، من مصر إلى المملكة العربية السعودية مروراً بالسلطة الفلسطينية، وحتى إسرائيل التي يغضبها الموقف السياسي المتشدد لأنقرة دعماً لـ «حماس» منذ الحربين السابقتين على القطاع في 2009 و2012. وحتى إيران لا تستسيغ دوراً نشطاً لحكومة أردوغان التي تقف في الخط المواجه لها في أزمتي سورية والعراق.
سياسة واشنطن عليلة وعاجزة، ولكن ماذا عن سياسة القاهرة بين غزة وليبيا، وسياسة طهران وأنقرة بين غزة والعراق وسورية وكردستان؟ وهل في دمشق وبغداد وبيروت سياسة؟ وماذا بمقدور الرياض وحدها في مواجهة التطرف والمتطرفين جنوباً وشمالاً و... الطامعين بالمنطقة العربية؟ وماذا عن سياسة تل أبيب؟ هل حققت حرب بنيامين نتانياهو أهدافها؟ هل رمّم جيشه صورته الرادعة؟ أما الصواريخ فيمكن تصنيع المزيد منها، والأنفاق يمكن حفر بديل مما دمر منها. و «حماس» وأخواتها باقية. بل باتت الرقم الصعب في القضية. الرئيس أوباما ضعيف... وجميعهم ليسوا سوى ضعفاء!