جورج سمعان
«تفاهم لوزان» نصر للخيار السياسي والديبلوماسية. واختبار ناجع لسلاح العقوبات والحصار الاقتصادي. ما بدا طوال عقد من المستحيلات تحقق بالصبر والمثابرة على الخيار السلمي. ويمكن كلا الطرفين أن يعلن فوزه. تنازل كل منهما ليحقق الحد الأدنى المعقول من مطالبه وإن كانت دون الطموحات. إيران حصلت على حقها في البرنامج النووي السلمي، أياً كانت التدابير والإجراءات التي فرضت على منشآتها وعمليات التخصيب. وكسبت رفعاً للعقوبات. والمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة نجح في فرض رقابة دولية صارمة على المنشآت والتخصيب بعد إجراءات وتدابير تحول دون إنتاج الجمهورية الإسلامية السلاح النووي. وما يدور اليوم في إطار الشرح والتفسير للتفاهم على «المعايير» طبيعي، إذا أخذنا في الاعتبار أن الخلافات على التفاصيل التي يمكن كشفها للرأي العام كانت بنداً رئيساً على طاولة التفاوض. المهم ألا يصل الأمر إلى حد التلاعب في «الترجمة»، كما حصل لقرار مجلس الأمن 242 الذي نص في ترجمة على انسحاب القوات الإسرائيلية من «الأراضي» المحتلة بعد حرب 1967، ونص في ترجمة أخرى على الانسحاب من «أراضٍ».
الاجتهاد في التفسيرات والشروح لتهدئة النفوس يجب ألا يضيّع الطريق إلى نهاية حزيران (يونيو) المقبل، موعد الاتفاق النهائي. لا تزال هناك مخاطر جمة. الجمهوريون في الكونغرس الأميركي الذين يقفون إلى جانب بنيامين نتانياهو يناهضون الرئيس باراك أوباما. يرفضون الاتفاق مع إيران. ويستعدون لنقل المواجهة مع إدارته إلى الحيز القانوني لمنعه من إبرام أي تفاهم. في الجانب الآخر، رموز في التيار المتشدد بطهران وصفوا التفاهم بأنه «كارثة». وتندروا متحسرين على المنشآت النووية التي ستتحول «مدن ملاه»، وعلى منشأة فردو التي ستغدو «مدينة سياحية»! لم يعيروا تظاهرات الابتهاج والترحيب بعودة الوزير جواد ظريف أي اهتمام. مثل هذا التناقض في قراءة التفاهم يجب أن يدفع القيادة إلى الانصراف لمعالجة أوضاعها الداخلية، بدل إضاعة جهودها وراء أحلام امبراطورية ولادة حروب لا غير.
تعليقات المتشددين ليست جديدة في أي حال. وقاومها المفاوضون طوال سنة ونصف سنة. لم يجازف أحد بإقفال باب الحوار ومغادرة الطاولة. الطرفان الأميركي والإيراني كانا بالطبع الأكثر حرصاً على التوصل إلى نتيجة. لأن البديل أمام الولايات المتحدة، سواء كان حرباً أو مزيداً من العقوبات، لم يكن لينتهي بأفضل مما انتهى إليه الخيار الديبلوماسي حتى الآن. علماً أن الرئيس أوباما وصل إلى البيت الأبيض على وقع شعارات: إنهاء الحروب التي خاضها سلفه، واستدعاء القوى الكبرى إلى المشاركة في إدارة شؤون العالم، ودفع القوى الإقليمية إلى معالجة الأزمات التي تواجه مناطقها، مواجهات أو تسويات. لذلك وضع كل ثقله خلف المفاوضات بين إيران والدول الست. وهو يراهن على أن فتح الجمهورية الإسلامية أبوابها أمام العالم الخارجي وقوانينه سيبدل المناخ السياسي الداخلي ويدفع نحو التغيير. ومثله وضع الرئيس حسن روحاني كل ثقله ومصيره ورصيده الشعبي في المفاوضات. راهن على التوصل إلى تفاهم للحفاظ على مستقبله السياسي، وللتجديد ولاية ثانية ربما. ولم تكن القيادة في طهران أقل حرصاً. ذلك أن ما كانت «الثورة الإسلامية» تزرعه في المنطقة يحتاج إلى رعاية واعتراف بشرعيته. ويستدعي تالياً العمل على رفع العقوبات ليسهل لها تمويل عملياتها ومواقعها المكلفة في الخارج.
وبعيداً عن رغبة الطرفين وحرصهما على هذا الإنجاز، لم يكن أمام إيران مفر من التفاهم على «معايير» أساسية أو اتفاق إطار لمواصلة المفاوضات حتى آخر حزيران المقبل. التطورات في أكثر من ساحة إقليمية في السنوات الأربع الأخيرة لم تكن لمصلحتها، على رغم نشوتها بالقبض على عواصم عربية أربع، وانتشارها من أفغانستان إلى ساحل المتوسط، ومن مضيق هرمز إلى باب المندب! أبرز التحديات ما واجه نظام حليفها الرئيس بشار الأسد الذي يستنزفها بكل أنواع الدعم لبقائه صامداً. وواصلت فصائل المعارضة أخيراً تقدمها في ريف إدلب، وفي الجبهة الجنوبية على الحدود مع الأردن. لكن ما هدّد تمددها كان قيام «الدولة الإسلامية» في بلاد الشام. دفعها «الخليفة أبو بكر» إلى مواقع دفاعية. وكان من تداعيات ذلك حكومة جديدة في بغداد ليست بعيدة عن طهران لكنها ليست بالقرب الذي كانته حكومة نوري المالكي. أرغمت على قبول تغيير تحت شعار إعادة بناء اللعبة السياسية بما يرضي المكون السني في العراق والإقليم أيضاً. وآخر إخفاقاتها حرب تكريت التي كشفت فشلها وفشل قوات «الحشد الشعبي» في تحرير المدينة من التنظيم الإرهابي... إلى أن طلبت بغداد المدد من طيران «التحالف الدولي - العربي». وفي لبنان يصب حليفها «حزب الله» جل جهوده للقتال إلى جانب نظام الأسد. وهو يراقب اليوم ما يجري جنوب شبه الجزيرة عاجزاً عن نجدة التجربة الحوثية التي رعاها طويلاً. فالتحالف العربي - الإقليمي الجديد بقيادة السعودية كان الصدمة الكبرى. وصار اليمن على حافة الخروج من تحت العباءة الإيرانية.
كانت إيران في عز اندفاعها تراهن على إحكام الطوق على المملكة العربية السعودية، عبر التفاف هذا الهلال من سورية والعراق شمالاً إلى اليمن جنوباً. من دون إغفال الأسطول الإيراني في مياه الخليج وعلى مضيق هرمز. فضلاً عن الأراضي والمياه التي أتاحها السودان لكل نشاطاتها في التمدد نحو سيناء ومد فصائل فلسطينية في قطاع غزة بالسلاح والصواريخ وكل أنواع العتاد والمساعدات. غالت في التمدد والانتشار مستفيدة من انشغال خصومها الغربيين بالبرنامج النووي والمفاوضات. راهنت على تكريس هذا الحضور في الإقليم وشرعنته، جائزة ترضية تصرف بها تيار المتشددين عما يمكن أن تقدم من تنازلات في المفاوضات. لكن التحرك الذي قادته الرياض عمق الخلل الذي أصاب استراتيجيتها. وفاقم مخاوفها في سورية والعراق. أقامت السعودية سداً منيعاً من المغرب على الأطلسي إلى الخليج مروراً بباب المندب. فضلاً عن السندين الباكستاني (النووي)، في الحديقة الخلفية للجمهورية الإسلامية، والتركي (الأطلسي) الذي لا يخفى دوره وتأثيره في العراق وسورية على السواء. ناهيك عن موقع كل من البلدين في الحسابات الإسلامية والإقليمية والدولية.
إطلاق السعودية التحالف الجديد وحملتها في اليمن جاء في توقيت دقيق وحساس لإيران التي تقف أمام مفترق طرق بعد ثلاثة عقود ونصف عقد. «تفاهم لوزان» يفرض عليها ضبط ساعتها على إيقاع الساعة الدولية. يعدها بمرحلة جديدة بعد الاتفاق النهائي آخر حزيران المقبل. ويعد الإيرانيين بتحريك العجلة الاقتصادية والتجارية والمصرفية والاجتماعية، أي بحياة أفضل. ويفترض منطقياً أن ينعكس تهدئة في الإقليم... ويفترض أن يساهم التحالف الجديد بقيادة السعودية أيضاً في إحياء شيء من الواقعية في سياسة طهران. لم يعد مثمراً الرهان على الوهن العربي. يمكنها اليوم أن تراهن على بعض التناقضات في الصف العربي. لكن هذه مهما تجذرت وتفاقمت لا يمكنها أن تعرقل البناء الذي انطلق من النواة العربية في التحالف الجديد.
الرئيس أوباما دعا بعض القادة العرب إلى قمة في كمب ديفيد قريباً لمناقشة تداعيات الاتفاق النووي وقضايا المنطقة. وكانت إدارته رفعت الحظر المفروض على المساعدات المخصصة لمصر. وأيدت «عاصفة الحزم». لكن هذا لا يكفي ما لم تبادر إيران قبل أميركا بالتوجه إلى جيرانها لطمأنتهم إلى أنها لن تتوسل الاتفاق الموعود حصان طروادة لمواصلة سياسة الزحف في المنطقة العربية. يجب أن تبعث بإشارات إيجابية تبدي استعداداً لمعالجة الأزمات التي يغذيها الصراع المذهبي. مسؤوليتها أن تخطو لتبريد الجو المذهبي المحموم الذي يسمم العلاقات بما يتجاوز الحيز العربي إلى الإسلامي العام. لن تستطيع أن تبني قاعدة ثابتة وسط العالم الإسلامي السني الواسع. تحتاج إلى البوابة السعودية للعبور إلى حضن هذا العالم لتشعر بمزيد من الأمان. بعدها يمكن الولايات المتحدة أن تمارس دور ضابط الإيقاع بين الرياض وطهران، كما كانت تفعل أيام حكم الشاه. وربما كان في خطتها دفع الطرفين العربي السعودي والإيراني إلى تقاسم المنطقة من سورية إلى جنوب الجزيرة العربية.
ولكن في ضوء تجربة العقود الثلاثة الماضية، يتوقع بعض خصوم إيران ألا تصبر طويلاً للرد على التحالف، بعد «عاصفة الحزم»، و»قمة العزم» في شرم الشيخ. لعلها تراقب أو تراهن على خلافات بين بعض العرب. وإذا فشلت أمامها ساحات كثيرة للرد. من مواقع وتجمعات في دول مجلس التعاون، إلى توتير الجو السياسي ربما في الكويت وما يتركه من تداعيات في شبه الجزيرة. فقد علت أصوات نيابية تنتقد الحكومة لمشاركتها في الحملة على الحوثيين من دون الرجوع إلى مجلس الأمة، عملاً بمنطوق الدستور. مع أن هذه الأصوات لم ترتفع «حرصاً على الدستور» عندما انضمت الكويت إلى التحالف الدولي في حربه على «داعش»! ويمكن اللجوء إلى استراتيجية جديدة في لبنان، سياسياً وعسكرياً، تنهي التفاهم على تحييد لبنان الذي قام بعد لقاءات مسقط بين الأميركيين والإيرانيين.
في أي حال ما يجري في العراق على أيدي قوات «الحشد الشعبي» ربما كان صورة واضحة عن عدم رضوخ إيران وسكوتها. وهي بتركها الميليشيات الشيعية الموالية لها تعيث فساداً ونهباً وحرقاً وتشريداً في تكريت وقبلها في دساكر أخرى تحررت من قوات «داعش»، لا تسعى إلى الانتقام مما ألحقته «الدولة الإسلامية» بصورتها فحسب. ولا تسعى إلى الثأر أو ترميم سياستها وقبضتها التي اهتزت بخروج رجلها نوري المالكي من دار رئاسة الوزراء فحسب. بل تسعى إلى توسيع مناطق نفوذها لتشمل معظم العراق. لقد باتت ميليشياتها دولة داخل دولة. ولا قدرة لحكومة حيدر العبادي على ردعها. خلاصة القول إن مواصلة طهران نهج الرد والتمدد سيفاقم المواجهة في الشرق الكبير، بصرف النظر عن نتائج لوزان وما سيحمله شهر حزيران.