جورج سمعان
مدينة كوباني ليست فخاً لتركيا وحدها. بدأت تثير كماً من أسئلة لا أجوبة واضحة عنها. وغبار القتال الدائر في شوارعها طغى على كثير من الأحداث لكنه لم يغيّبها، عين العرب حاضرة في عين المواقف التي تتناول تركيبة التحالف الدولي - الإقليمي وخططه وأدوار أطرافه. ما يحكم مواقف هذه الأطراف هو غياب خريطة الطريق والأهداف الواحدة، ومآل هذه الحرب التي يتفق الجميع على أنها ليست الحل الوحيد، أو الأساسي للقضاء على الإرهاب. لذلك، تدور تحت سقف الطائرات وغاراتها في العراق وسورية حروب أخرى ترفع وتيرة الصراع المذهبي في المشرق العربي وشبه الجزيرة. وتنذر باتساع رقعة المواجهة الإقليمية بين إيران وخصومها، بخلاف الآمال التي أشاعها التغيير في بغداد، حيث يبدو أن قطار السيد حيدر العبادي توقف في العقبة. وصور الحرب المفتوحة بين «القواعد» والشيعة من صنعاء إلى البقاع وطرابلس تنذر بالمزيد، وربما كانت سبباً رئيسياً في إطالة أمد المواجهة مع «داعش» والإرهاب في الإقليم الذي قد ينزلق إلى حرب واسعة تكسر الاستعصاء المستحكم، وترغم الجميع على العودة إلى جادة السياسة والتسويات.
كوباني التي يجب إنقاذها ونصرة أهلها من سكاكين الهجمة الوحشية ليست سوى رأس جبل الجليد الذي يقف حجر عثرة في طريق التحالف. ما خلف هذا الجبل لا تعالجه الآلة العسكرية مهما عظمت. والدليل أن كل هذه الغارات والجبهات المفتوحة لم تحل دون تقدم «داعش» على الأرض في العراق وسورية، ولم يتوقف إمداد التنظيم بالشباب طوعاً أو كرهاً. والجدال الدائر بين تركيا والآخرين يجب أن يتجاوز الكلام على مسؤوليتها الأخلاقية عن إنقاذ المهددين بسيوف «الدولة الإسلامية». الحاجة ملحة إلى تحرك سياسي دولي وإقليمي يواكب الحملة العسكرية على الإرهاب... وإلا فلا شيء يرجى من هذه الحرب، بل قد تزداد عنفاً واتساعاً وتطول وتطول. حري بأطراف التحالف أن يناقشوا قبل توزيع المهمات التي وعد وزير الخارجية الأميركي جون كيري بإنجازها في الأسابيع المقبلة فتح الملفات السياسية ليحددوا الأهداف النهائية من هذه الحرب.
جميعهم تحدثوا عن الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الجماعات لكنهم لم يطرحوا حلولاً لمعالجتها وإزالتها لتكون الحرب الميدانية أكثر نجاعة في استئصال «داعش» وأخواته. وخير دليل ما يجري في العراق. حتى الآن لم يكمل حيدر العبادي تشكيلة حكومته. ينقصها الوزيران الأساسيان للداخلية والدفاع. ولم يفلح الأميركيون في التفاهم مع العشائر السنّية. وفكرة إنشاء قوات الحرس لكل محافظة لا تزال قيد الدرس. فيما «الخليفة أبو بكر» يسعى إلى مزيد من «الولايات». والقرى والنواحي القليلة التي حُررت من مقاتليه لم يعد إليها أهلها. يشكون من تغول الميليشيات و «قوات الحشد الشعبي» التي يتهمونها بممارسات مذهبية انتقامية، سعياً إلى تغيير معالم هذه المناطق ديموغرافياً! في ظل هذه المشاعر كيف يمكن التحالف إقناع أبناء العشائر السنّية بالانضمام إلى المعركة؟
لا يقتصر هذا الصراع المفتوح على الشارع العراقي، بل بدأ يتجاوز إلى مواقف الناس والحكومات، من اليمن إلى سورية ولبنان. وينذر بخطر تفاقم الصراع المذهبي في الإقليم. كأن الباب الذي فتح في بغداد لإعادة بعث السياسة أُعيد إقفاله سريعاً. الحرب الشيعية - السنّية تتسع. يتنامى سكوت الشارع السنّي عن الحركات الجهادية، وإن لم يتماهَ مع أفكارها وتشددها العقائدي ووحشيتها، ما دامت تأكل من رصيد إيران وحضورها وتأثيرها في العالم العربي. ففي اليمن أعلن «القاعدة» الذي ينتشر على مساحات في الجنوب وشرق الجنوب، الحرب على الحوثيين. وهي بلا شك ستستقطب مجاميع من السنّة الذين أغضبهم ويغضبهم ما فعله «أنصار الله» في صنعاء. ولن يكون بمقدور «الحراك الجنوبي» المتحالف مع عبدالملك الحوثي، أن يمسك بشؤون جنوب البلاد. ستكون المنطقة تحت قبضة «القاعدة» الذي لم تفلح الطائرات الأميركية والجيش اليمني في اقتلاعه. هذا الاختراق الإيراني لجنوب شبه الجزيرة لم يثر مخاوف أهل مجلس التعاون وغضبهم فحسب. الرئيس السوداني عمر البشير الذي تربطه علاقات جيدة مع طهران، وصف الحوثيين بأنهم أشد خطراً من «داعش»! وكان أقفل المؤسسات الثقافية للجمهورية الإسلامية في بلاده في خطوة سماها «استراتيجية وليست تمويهاً للخليجيين».
اليمن الذي يكاد يغيب عن جدول الأعمال الدولي صورة أخرى من صور الحرب المفتوحة في المنطقة التي تقلقها سياسة إيران في العالم العربي. كأن إمساك طهران بصنعاء ورقةٌ احترازية في مواجهة عودة الأميركيين إلى العراق، وما يمكن أن تقود إليه الحملة على «داعش» في سورية، وخطط أنقرة في هذا المجال. ولا جدال في أن الجمهورية الإسلامية - ومعها روسيا أيضاً - لا ترغب في رؤية مثل هذه العودة. لم تنحنِ تماماً أمام عاصفة «داعش» في العراق وإن قدمت بعض التنازلات. ما تخشاه أكثر ما يعد لسورية. هنا، لا يضع التحالف القضاء على مقاتلي «الدولة الإسلامية» هدفاً ملحاً ما داموا يستنزفون النظام. كما أن «حزب الله» الذي زج بعناصره في الميدان السوري سيضطر إلى إعادة النظر في حساباته بعدما نقل من يسميهم «التكفيريون» المعركة إلى حضنه وحواضنه. وبعدما بدأت الساحة اللبنانية تغلي استعداداً للأسوأ، من الجنوب الشرقي والبقاع إلى طرابلس شمالاً. وليس أسهل من اتساعها مع اتساع الصراع المكبوت بين تجمعات اللاجئين وبعض المكونات اللبنانية التي باتت تنظر إليهم مشروع حاضنة للجهاديين.
هذه الجبهات التي بدأ تسخينها ليست وحدها مصدر قلق لطهران وحلفائها. عملية «حزب الله» ضد دورية إسرائيلية تحمل جملة من الرسائل، لعل من أهمها التعبير عن قلقه من تمدد «جبهة النصرة» على طول الحدود في الجولان. أن تصبح هذه الحدود بيد فصائل المعارضة السورية يعني أن التماس بين إيران والدولة العبرية لن يعود قائماً، إذا أخذنا في الاعتبار أن الحدود في جنوب لبنان يحرسها المجتمع الدولي عبر قوات الأمم المتحدة.
وتبقى تركيا هاجساً كبيراً لإيران التي حذرتها من أي تدخل في سورية. بالطبع، ليس هذا التحذير ما يعوق أنقرة. وإذا حدث مثل هذا التدخل قد لا يكون أمام الجمهورية الإسلامية سوى الاندفاع إلى الساحة العراقية. وليس في وارد أي من اللاعبين انزلاق الأوضاع في المنطقة هذا المنزلق. قيل الكثير في أسباب إحجام تركيا عن التدخل لمنع سقوط كوباني: تريد الثأر من موقف حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي الذي هادن دمشق وخرج على تحالف المعارضة. وتخشى الانجرار إلى حرب مع «داعش» على مساحة واسعة من الحدود. وتخشى أيضاً خلايا نائمة في أراضيها لمجموعات إرهابية. ولا تريد تعزيز قدرات الكرد عموماً، خصوصاً عناصر حزب العمال. وكانت ولا تزال تنادي بمنطقة آمنة، وبأن يكون بين أهداف التحالف إسقاط نظام بشار الأسد. إلى كل ذلك تتنازعها رغبتان: لا تريد الخوض في هذا الصراع المذهبي في الإقليم، لأنها لا تريد المواجهة المباشرة مع إيران، ومن ثم مع وروسيا بعدما كانت حتى اليوم تنأى بنفسها عن هذا الصراع. من جهة أخرى لا تخفي مشاعرها حيال ما تعرض ويتعرض له أهل السنّة في كل من العراق وسورية. تسعى الى استعادة راية السنة في الاقليم، واستعادة هلال الاقليم من إيران وغيرها. ويتساءل المسؤولون الأتراك علناً عن هذه الهبّة الدولية لحماية كوباني وكردها، في حين يرتكب النظام في دمشق مجازر يومية في حق أحياء وقرًى سنّية ولا يحرك أحد ساكناً؟
في غياب استراتيجية واضحة للتحالف، لا ترغب تركيا في أن تزج بنفسها وحيدة في هذا الأتون. ولا يمكنها أن تجازف باجتياز الحدود مع سورية من دون غطاء دولي. ما الفرق بينها وبين ما فعلته وتفعله روسيا في أوكرانيا؟ هل تلتف وحدها على القانون الدولي وتجازف بحرب مع النظام في دمشق ومن وراءه؟ وترفض بالطبع اتهامها بأنها سهلت وصول كل أنواع المقاتلين إلى سورية وأنها مسؤولة عن هذا الوضع. موقفها تبدل الآن بعد انضمامها إلى التحالف. وتحسب اليوم ألف حساب للتعامل مع القوة الجديدة على حدودها، وما يمكن أن تشكله من تهديد مستقبلي لهذه الحدود. وترى أن من حقها السؤال هل قيام «داعش» مسؤوليتها وحدها؟ ماذا عن الولايات المتحدة التي تعامت ولا تزال تتعامى ومعظم شركائها الأوروبيين عن السياسة التي نهجتها حكومتا نوري المالكي في العراق، وتعامت وتتعامى عما يحصل في سورية؟ وماذا عن مسؤولية إيران التي لا تنفك إلى اليوم تعتمد سياسة «التغول والتمكين» في كل أرجاء العالم العربي؟ لماذا لا يتحرك أقطاب التحالف لوقف ما يحدث في اليمن؟ لماذا لا يوقف القتل والتدمير والتهجير في سورية؟
موقف تركيا لا يلتقي مع موقف أميركا. وليست وحدها في هذا الموقف. تشاركها فرنسا والأطراف العربية في التحالف. لكل من هذه الأطراف نظرته وحساباته الخاصة. ولا يستبعد أن يعيد بعض المنخرطين فيه النظر في مشاركتهم ما لم توضع خطة واضحة تحدد الأهداف النهائية من هذه الحرب عسكرياً وسياسياً، خصوصاً في الساحة السورية. الأمر الذي سيهدد تماسكه. وليس سراً أن واشنطن لا ترغب في مشروع حرب لإطاحة الرئيس الأسد. تحاذر أن يجر ذلك إلى إطاحة رهانها الطويل على تسوية ديبلوماسية للملف النووي الإيراني. ليس هذا فحسب، بل تنظر إدارة الرئيس باراك أوباما إلى الفصائل السورية المقاتلة على الأرض فتجد أن الفصائل المعتدلة هي الأضعف. وهي تراهن اليوم على أن تدفع التطورات في المسرح الشامي إيران وحلفاءها وروسيا إلى استعجال تسوية سياسية ربما بات أهل النظام في دمشق مستعدين لها في ضوء الخيبات والخسائر الكبيرة التي أصابتهم وتصيبهم.