التعقيدات السياسية المواكبة للحرب على «داعش» في الفلوجة والرقة تكاد تفوق التعقيدات العسكرية. وتتحرك الولايات المتحدة التي تقود هذه الحرب في حقـــول ألغام لم يزرعها التنظيم الإرهابي فحسب. ثمة حقـــول ألغام لا تقل خطورة تعوق التحرك الميـــداني تزرعها بطريقة أو بأخرى كل من تركيـــا وإيران. فضلاً عن المساحة الواسعة التي لا تزال تباعد بين موقفي واشنطن ومـــوسكو، وتفيد منها كل القوى الإقليمية والمحلـــية المتصارعة على مساحة خريطة «سايكس - بيكو». فتسعى إلى ملء الفراغ الذي يخلفه غياب التفاهم بيـــن الدولتين الكبــريين. كأنها تسعـــى إلى الاستئثار برسم الحدود الجديدة للإقليم.
وهو ما يجعل باب المقايضات مقفـــلاً بإحكام. وعوض أن تخلق كل هذه التــــدخلات في الصراعات والحروب الأهلية المفتــــوحة على امتداد المنطقة إلى دينامية تعيد الاعتبار إلى الديبلوماسية وإنعـــاش دور السياسة الغائبة، يكاد جميع اللاعبين يتحولون جزءاً من المشكلة.
ما يحصل في سورية والعراق تنافس واضح بين الولايات المتحدة وروسيا، لئلا نقول حرباً باردة كما كانت الحال أيام الكتلتين الغربية والشرقية. وحروب مباشرة وبالوكالة بين القوى الإقليمية الكبرى التي لم تعد تنصاع لرغبات الكبار واستراتيجياتهم. غياب التفاهم بين واشنطن وموسكو لا يترجم رغبة الرئيس باراك أوباما الذي دعا منذ دخوله البيت الأبيض، في 2009، إلى إشراك باقي القوى الدولية والتعاون معها في إدارة شؤون العالم وتسوية الأزمات.
إدارته لا ترغب في تعاون حقيقي في العراق ولا في سورية. لا بل لا يخفي سروره بانخراط روسيا وإيران في المستنقع السوري، في إطار ترداد شعاره العزوف عن التدخل المباشر. في حين يتصدر المعركة لتحرير الفلوجة والرقة مثيراً غباراً سياسياً واسعاً في كلا المعركتين. والحال أن غريمه الرئيس فلاديمير بوتين هو الآخر لا يريد طي صفحة القطبية الواحدة إلا بشروطه.
لا يريد إحياء دور الكرملين كأنه منة أو منحة من واشنطن. يريد انتزاع موقع بلاده السابق بالقوة وإثارة المخاوف والمتاعب، من جــورجيا وأوكرانيا إلى سورية والعراق، مروراً بتركيا. وهكذا أحيا أجواء الحرب الباردة فيما تؤكد حكومته أن لا عودة إلى تلك المرحلة! ولا حاجة إلى الحديث عما يثيره توسع «الناتو» و«الدرع الصاروخية» والقواعد لحماية أوروبا الشرقية ودول البلطيق، وردود فعل روسيا وتهديدها بوقف مفاعيل اتفاق تقليص الأسلحة النووية، وسعيها إلى إعادة بناء المؤسسة العسكرية وتحديث صناعاتها الحربية.
والواقع أن سياسة العودة إلى تعدد القطبية في النظام الدولي الجديد لم تحرك مفهوم التسويات، بمقدار ما أدت إلى تمرد دول إقليمية وتفكك أخرى ونشوء تشكيلات وقوى خارجة عن الإطار الناظم للعلاقات الدولية، خصوصاً في الشرق الأوسط. ولم يؤدِّ سقوط حدود كثيرة في أنحاء الشرق الأوسط، إلى تصعيد الصراع المذهبي والعرقي فحسب. ولا إلى اقتطاع كيانات مناطقَ من هذه الدولة الوطنية أو تلك أو الاستئثار بالدولة كلها وخطفها. ولا إلى إعادة رسم حدود تراعي كتلاً ومكونات لا تزال ترفع شعار المظلومية. بل إن التمزيق شمل كل مكون من هذه المكونات. فالكرد في شمال العراق لم يعمر ازدهار إقليمهم.
وليسوا بعيدين من التشظي الذي يصيب العراق كله. ولا القوى الشيعية التي استأثرت بالسلطة والحكم والدولة ومؤسساتها صمد تحالفها في وجه الآخرين. وصراعاتهم إلى تصاعد لم ينفع في تخفيف حدته تدخل إيران ولا تدخل الولايات المتحدة وضغوطها.
أما أهل السنّة في العراق وسورية ففرق وقوى يتوزعون بين قوى إقليمية متعددة وفصائل متناحرة لا سبيل لجسر الهوة بين المعتدل منها والمتطرف في أحضان «داعش» و «النصرة» وغيرهما. فيما ساستهم وقواهم السياسية في بلاد الشام وأرض الرافدين يكادون ينقطعون تماماً عما يدور في الميدان. وهذا سبب رئيس من أسباب ضعفهم وتهميشهم و... تهجيرهم واقتلاعهم.
والواقع أن تغيير الولايات المتحدة استراتيجيتها لجهة أولوياتها وانكفائها عن الانخراط في النزاعات الإقليمية، لم تواكبه بحملة ديبلوماسية وإجراءات فعلية تطمئن الحلفاء والشركاء. وحتى الاتفاق النووي مع إيران لم يؤد إلى تغيير داخلي في الجمهورية الإسلامية كما كان مرجواً.
كما أن فتح الباب أمام القوى الدولية الأخرى لأداء دورها لم يثمر تفاهمات حقيقية. ولم يكن حظ السياسة الروسية أفضل حالاً. فنهج التدخل الذي قاده الرئيس بوتين لم ينته بتفاهمات جديدة تساهم في بلورة نظام دولي جديد.
فالاندفاع نحو أوكرانيا ثم نحو سورية لم يفتح باب المقايضات بمقدار ما أجج المخاوف. والانخراط المباشر في أوكرانيا جلب عقوبات قاسية. مثلما لم يجلب الانخراط في الحرب الأهلية في سورية نصراً أكيداً لموسكو ودمشق وطهران. لذلك، يواجه التدخلان الأميركي والروسي اعتراضات واسعة من قوى إقليمية وازنة.
فقد بات واضحاً أن واشنطن لا تقيم وزناً لغير الحرب على الإرهاب. وهي تلقي بثقلها لإنهاء وجود «داعش» شمال سورية. أولاً لإقفال أبواب الحدود التركية، من جرابلس إلى أعزاز، أمام انتقال عناصر التنظيم ذهاباً وإياباً، ووقف الدعم المالي واللوجيستي. وثانياً لتسهيل المعركة الدائرة لتحرير مدينة الرقة، عاصمة «خلافة أبي بكر البغدادي».
من هنا، أهمية المعركة الدائرة في منبج لطرد التنظيم منها واستكمال تطويقه. وهي معركة تزيد سوء التفاهم بين واشنطن وأنقرة تعقيداً. فتركيا يسكنها هاجس استكمال «الحزب الديموقراطي الكردي» ربط كانتوناته من كوبــــاني إلى عفرين، فيستكمل بذلك سيطرته علــــى معظم الشريط الحدودي شرق الفرات وغـــربه. وكانت حذرت مراراً بأنها لن تسمح لـ «وحدات حماية الشعب» باجتياز النهر غرباً. وهذا ما يعني عملياً تشجيع «داعش» على التمدد نحو مارع وأعزاز واستكمال سيطــــرته على طول الحدود غرب النهر. وهو ما يسعــــى إليه اليوم في حملته في ريف حلب الشمالي. ولا يثير الدعم الأميركي للكرد حفيظة الأتراك وحدهم. بل يعزز مخـــاوف العرب وفصائل المعارضة التي تقاتل النظام. ولم يخف أحد قادة الاتحاد الديموقراطي رغبة حزبه في ضم الرقة إلى الإقليم الكردي شمال شرقي سورية.
والموقف التركي في الحرب على «داعش» في سورية لا يشبهه سوى الموقف الإيراني من الحرب على التنظيم في العراق، ومعركة الفلوجة. لم تستطع تركيا تجاوز مخاوفها سعياً إلى تفاهم مع كرد سورية قد يمهد لاستعادة الحوار مع حزب العمال الكردستاني، وتسهيل هذا الحوار وإعادة بناء الثقة. ومثلها إيران التي أكدت أخيراً أنها لن تنسحب من العراق وستواصل مساعدته على مواجهة الإرهاب. وهي برعايتها قوات «الحشد الشعبي» وإشراف الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، تساهم في عرقلة الحرب على التنظيم الإرهابي. فالمخاوف التي عبرت عنها قوى سنّية عراقية وجهات إقليمية ودولية من تكرار التجاوزات التي ارتكبتها هذه الميليشيات إثر تحرير تكريت، باتت حقيقة على الأرض. وهو ما عرقل ويعرقل فرار المدنيين من الفلوجة وسهل تحويلهم دروعاً بشرية للتنظيم الإرهابي. وبالطبع، لا تتخلى طهران عن هواجسها من أن تؤدي الحرب على «دولة الخلافة» في العراق إلى استعادة الولايات المتحدة نفوذها، انطلاقاً من عودة الروح إلى الحضور السنّي في المحافظات الشمالية والغربية، فضلاً عن وجود أميركا الفاعل في كردستان العراقية والسورية.
إذا كان جميع اللاعبين معنيين بالحرب على الإرهاب، فما الذي يعوق جلوسهم إلى طاولة واحدة للتفاهم على إدارة مشتركة لهذه الحرب، وللاتفاق تالياً على اليوم التالي لضرب التنظيم، أي التسويات السياسية؟ لماذا ترفض أميركا عرض التعاون الروسي في الحملة على «داعش»؟ وقبل ذلك لماذا تنتظر موسكو رداً؟ لماذا لا تخوضها كما فعلت في تدمر؟ هي تضرب في حلب وإدلب، فلماذا لا تتجه مع قوات النظام وحلفائه نحو الرقة وغيرها شرقاً؟ وهل يتعذر على أنقرة التفاهم مع الكرد وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم بادر مع بداية الأزمة السورية إلى حوار أثمر هدنة مع حزب العمال الكردستاني؟ ولماذا تصر على أجندتها هي وأهداف تدخلها في المنطقة بصرف النظر عن مصالح شركائها، خصوصاً واشنطن؟ وكذا المحال مع إيران التي تدعم حكومة بغداد التي استنجدت بالأميركيين فيما الميليشيات تهدد وتتوعد بمواجهة التدخل الأميركي، وترفض أي تسوية سياسية مع المكونات الأخرى في العراق يمكن أن تحدّ من غلواء استئثارها ببلاد الرافدين؟
كسب المعركة في الفلوجة والرقة لا ينهي الحرب، ولا يثمر تفاهماً بين واشنطن وموسكو يوقف الفوضى والانهيارات في المشرق العربي. ولا ينهي طموحات كل من تركيا وإيران. بل إن سياسة هاتين الدولتين زرعت وتزرع مزيداً من الألغام في طريق الحرب على الإرهاب بالنفخ في نار الصراع المذهبي... هنيئاً لإسرائيل هذا الهدوء وهذه السكينة فلا رياح تعاكس سفينة نتانياهو وليبرمان!