جورج سمعان
«غزوة باريس» أثارت جدلاً واسعاً تجاوز فرنسا إلى العالم كله. أعادت طرح أفكار جديدة قديمة لمواجهة ظاهرة التطرف الديني وحركات التكفير. نجح الإرهابيون في إعادة دفع جملة من الأزمات والمشاكل إلى صدارة البحث. كثيرون رفضوا سوق أي مبررات للعدوان على أسبوعية «شارلي إيبدو». لكن ما حملته وتحمله تصريحات مسؤولين ودوائر معنية في أوروبا وخارجها تشي بخلاف ذلك. فالقارة العجوز أولاً ليست وحدها أمام حرب مفتوحة وطويلة ومتشعبة في الداخل والخارج. كأن على العالم أن يستأنف صراعات قديمة ترقى حتى إلى ما قبل فترة الاستعمار في القرنين الماضيين. إلى ما قبل «فتح الأندلس». وقبل الحروب الصليبية، والفتوحات العثمانية وطرقها أسوار فيينا. ترقى إلى صراع إمبراطوريات قامت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط قبل ظهور الديانات التوحيدية. فُتحت كتب التاريخ والجغرافيا السياسية والاجتماعية والدينية على مصراعيها... وصولاً إلى خيبات الأمل من «الربيع العربي» بعد عقود من استبداد الأنظمة الوطنية وفسادها وظلمها. ومروراً بالدعوات إلى حركات إصلاحية للأفكار والعقائد.
في سياق التبريرات، ثمة من ميزوا في المواجهة مع الإرهاب، بين الولايات المتحدة وأوروبا. هذه لا تزال تحمل حنيناً إلى الوطنية والقومية وتراثهما وتقاليدهما. وتقابل المسلمين في الشاطئ الآخر من المتوسط. أما تلك فبلاد قامت ولا تزال على كل أنواع الهجرات من شتى أنحاء المعمورة، وهي بعيدة عن المشرق وهمومه. وفي سياق التبريرات توقف بعضهم عند خصوصية الساحة الفرنسية. أشاروا إلى أحزمة الفقر والضواحي المهملة التي يعيش فيها المهاجرون. في جوار أبراج وأحياء سكنية لطبقات أخرى تعيش حياة طبيعية أكثر رخاء واستقراراً. استعادوا أحداث الضواحي أيام كان نيقولا ساركوزي وزيراً للداخلية منتصف العقد الماضي. ثم في بداية ولايته رئيساً للجمهورية أواخر العقد. اتهمه خصومه بأنه ينهل من سياسة اليمين المتطرف بتعليقاته على حركة شباب الضواحي، وباقتراحه نزع الجنسية عن المهاجرين. والواقع أن هذا اليمين المتطرف والقوى القومية تتقدم باضطراد في فرنسا ودول أوروبية أخرى.
في سياق التبريرات، توقف كثيرون أمام نتائج السياسة الخارجية التي نهجها الرئيس باراك أوباما. فقرار الانسحاب من العراق، ثم الاستعداد للخروج من أفغانستان تركا انطباعاً في صفوف المتطرفين هنا وهناك بأن الولايات المتحدة هُزمت شر هزيمة في البلدين. وأن الحرب على هذين البلدين لم تنه ظاهرة «طالبان»، مثلما لم تبن الديموقراطية في العراق بقدر ما أججت النزاعات المذهبية والعرقية. وانتهى الأمر بقيام «الدولة الإسلامية». وتوقفوا أمام تخلي الأوروبيين عن ليبيا إثر سقوط نظام معمر القذافي. وهذا ما ساهم في انتشار الإرهاب سريعاً في شمال القارة السمراء ووسطها. ويدرك الفرنسيون والبريطانيون والطليان أنهم أخطأوا في ترك «الجماهيرية». وهم يدفعون ثمن عدم مساهمتهم في إعادة بناء مؤسساتها خصوصاً العسكرية والأمنية. وضبط انتشار السلاح وتهريبه إلى دول الجوار كله، شمال الصحراء الكبرى وجنوبها.
لم يبرر أحد لإرهابيي باريس فعلتهم. لكن هؤلاء نجحوا في فتح باب النقاش على مصراعيه. والواقع أن تصريحات القادة الغربيين، خصوصاً الرئيس فرنسوا هولاند، أعادت تحديد مواقع الحرب على الإرهاب وتصويبها. لم تعد تقتصر على المواجهة العسكرية والأمنية في أفغانستان وبلاد الشام واليمن وشمال أفريقيا... وفي الشوارع الأوروبية أيضاً. اعترفوا بوجوب البحث عن حلول وتسويات لمشكلات وأزمات توفر مناخاً مواتياً لنمو التطرف والعنف. قال الرئيس الفرنــسي في ندوة لمعهد العالم العربي بباريس أن بلاده «تقف وراء مبادرات تهدف إلى حل نزاعات في ليبيا والعراق وسورية واليمن والصومال من دون نسيان الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وستتحمل مسؤولياتها إذا اقتضى الأمر». ورفض الخلط بين الإسلام وحركات التطرف، وشدد على الوحدة الوطنية. ورفض التعرض للجاليات الإسلامية. لكنه وعد بمبادرات وإجراءات لضمان أمن فرنسا. كما حذر من «أن استمرار النزاعات وتدفق اللاجئين إلى أوروبا سيؤديان إلى فوضى اقتصادية ويهدد الأمن والنمو». ومثله نبهت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل من شعارات حركة «أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب» (بيغيدا) التي تتمدد في عدد من بلدان أوروبا من النمسا إلى سويسرا والنروج والسويد فإسبانيا.
وأخذ الرئيس هولاند على المجتمع الدولي أنه «لم يتحرك في الوقت المناسب لوقف المجازر في سورية، ومنع المتطرفين من توسيع سيطرتهم أكثر». وذكّر بأن فرنــسا كانت في نهاية آب (أغسطس) 2013، على استـــعداد للتدخل ضد النظام في دمشق إثر اتهامه باستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة. «ولكن، تم تفضيل طريق آخر. وها نحن نرى النتائج»! وأقر الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون بأن «الفوضى في سورية أتاحت المجال أمام المقاتلين الأجانب المتطرفين للدخول والخروج منها». وأبعد من ذلك ناقشــا في لقائهما الأخير إعداد مبادرة خاصة للتعامل مع جماعة «بوكو حرام» التي بدأت تتمدد من نيجيريا نحو الكاميرون والنيجر وتشاد. واتفقا على إجراءات لتعقب المتطرفين عبر الإنترنت، بعدما اتسعت أصوات المحذرين من دور وسائل التواصل الاجتماعي في تجنيد المتطرفين.
عندما تثير النخب الغربية كل هذه الأزمات والملفات التي تحتاج إلى حلول وتسويات، يعني ببساطة أنها تدعو إلى اعتماد أسلحة أخرى في مواجهة الحرب على الإرهاب، تركز على تنظيف البيئات التي ينمو فيها التطرف. وعندما يعدد القادة الأوروبيون هذا الكم من الأزمات والقضايا ويحددون ساحات كثيرة، فإنهم يدعون إلى معالجة كل هذه الملفات لتجفيف منابع المتطرفين. ويعني ذلك ببساطة أن الحرب تتسع دوائرها وتتعدد جبهاتها، وتضيق تالياً احتمالات الفوز فيها بالسرعة والحسم المطلوبين. ولا تقتصر المواجهة على الخارج الأوروبي فحسب. الأهم في التحديات التي أثارتها جريمة باريس في الشوارع الغربية عموماً. ردود الفعل العربية والإسلامية الرسمية وغير الرسمية على العدد الأخير من «شارلي إيبدو» تكشف بوضوح أن تعويل الغرب على دور حاسم للعالمين العربي والإسلامي في محاربة الإرهاب والتطرف يستدعي ثمناً. والثمن هنا بالطبع وقف الإساءة إلى المعتقدات الدينية بقوة القانون. فهل تبدو أوروبا مستعدة لذلك؟ وهل حاملو لواء الحريات والنظام العلماني مستعدون لمثل هذه «التضحية»؟ البابا فرنسيس الأول ندد بأحداث باريس. تمسك بحرية العقيدة والتعبير حقوقاً أساسية للإنسان. لكنه نبه إلى أن حرية التعبير يجب ألا تكون مسيئة. فهل تعيد النظم الغربية النظر في مفاهيمها للعلمانية والدولة المدنية تحت ضغوط الخوف والتهديد؟
القادة الأوروبيون رفضوا تحركات الأحزاب والقوى القومية واليمينية المتطرفة لمواجهة الجاليات الإسلامية في أوروبا. لكنهم يستعدون لدفع ثمن آخر. وعدوا بإجراءات لحماية أمن القارة بعدما انتقلت المواجهة إلى ساحاتها وشوارعها ولم تعد تقتصر على العراق وأفغانستان وغيرهما. ومعروف أن قوانين الهجرة الشرعية وغير الشرعية على بساط البحث من سنوات. فمن جهة تدرك القارة العجوز أهمية بقاء حدودها مفتوحة أمام هجرة مضبوطة ومقوننة، لأنها تحتاج إلى أيد شابة لصناعاتها ومجالات العمل الأخرى. تحتاج إليها لتعديل ميزان التركيبة السكانية وتوفير الضمانات المطلوبة للمتقاعدين وكبار السن الذين تفوق أعدادهم أعداد الشباب. بخلاف ما عليه الوضع في البلدان النامية، خصوصاً في العالم العربي حيث يشكل الشباب أكثر من 65 في المئة من نسبة السكان. ومن جهة ثانية تدرك أوروبا أن ما يدفع هؤلاء الشباب إليها هو الهرب من الأوضاع المزرية في أوطانهم. وأن هدفهم الأول والأخير البحث عن عمل واســتقرار، وليس من أجل المساهمة في الثقافة الغربية وسبل تعزيزها وتطويرها، كما يعتقد بعضهم أو يتوقع. يأتي هؤلاء من مجتمعات تقدس الدين وتحله في المرتبة الأولى، في حين أن المجتمعات الأوروبية تعيش في ظل علمانية نحت الدين جانباً في كل أسبــاب عيشها والقوانين الناظمة لمجتمــعاتها وعــلاقاتها. وهذا من المعوقات أمام اندماج الوافدين في المجتمعات الجديدة.
لقد نجح إرهابيو باريس في توسيع دائرة الخائفين من حركات التطرف ومن الإسلام وجالياته. ولا تكفي تحذيرات هولاند أو مركل مما تثيره قوى اليمين المتعصب من تحديات وتهديدات للتعامي عن ظاهرة انبعاث مشاعر الوطنية الأوروبية أو القوميات التي كانت سبباً في اندلاع حروب كبرى في التاريخ المتوسط والحديث. «11 أيلول (سبتمبر)» التي تتكرر هنا وهناك تنمي الحنين إلى ماضي النقاء والصفاء العرقيين. وتضغط نحو إجراءات وقوانين تعيد المجتمعات الغربية إلى الوراء، علماً أن هذه المجتمعات عبرت عن رفضها ومقاومتها التضييق على الحريات، كما فعلت الولايات المتحدة إثر «غزوتي» نيويورك وواشنطن. ولن تصمت إذا فرضت الإجراءات قيوداً على حرية التواصل عبر الإنترنت وأخواتها، كما أشار أوباما وكامرون. دفع إرهابيو باريس الحرب على الإرهاب إلى ساحات ومستويات أخرى. والتهديد الكبير ألا ينزلق الغرب إلى صدام حضاري يسعى إليه الإرهابيون المنتشرون على طول المساحة الأوروبية.