جورج سمعان
ليس من مصلحة أميركا ولا من مصلحة إيران وقف المفاوضات النووية. الخيار الديبلوماسي هو الخيار الوحيد. فلا الرئيس باراك أوباما يريد اللجوء إلى القوة، ولا إيران في وارد استدراج خصومها إلى مواجهة عسكرية. أصلاً لم تكن الحرب مرة خياراً حقيقياً. والظروف الحالية المواتية لإبرام اتفاق بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى لن تتكرر. وهذا ما يعرفه القادة الإيرانيون وأركان الإدارة الأميركية. لذلك، إذا تعذر التوصل إلى اتفاق نهائي مع حلول الرابع والعشرين من الشهر الجاري، فقد يلجأ المفاوضون إلى صيغة «اتفاق إطار» جديد يترك الباب مفتوحاً لاستكمال البحث في القضايا العالقة. وهي كثيرة احتاجت إلى وساطة سلطنة عمان وقد تحتاج إليها مجدداً.
لن يجازف الرئيسان أوباما وحسن روحاني في تفويت الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر في المدى المنظور مع إمساك الجمهوريين بالغالبية في مجلسي الكونغرس. ومع احتمال عودة المرشد علي خامنئي إلى ضبط إيقاع الصراع السياسي الداخلي بما يحد من حرية الحركة لحكومة روحاني. لذلك، ثمة حاجة ملحة إلى بقاء الباب مفتوحاً أمام مواصلة الحوار الأميركي - الإيراني. وهو حوار يتجاوز الملف النووي إلى ما يدور من أحداث في الإقليم، وإن أكد الطرفان في أكثر من مناسبة أن لا مقايضة ولا علاقة بين المفاوضات والاتفاق الذي أبرم قبل حوالى سنة من جهة والملفات الأخرى في المنطقة من جهة ثانية. ما يجري على أرض الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسورية، صورة واضحة عما يُعدّ لما بعد الاتفاق المنتظر. أو هو إعداد سابق لأرضية أي حوار جدي ومباشر سيتناول بالتأكيد مستقبل النظام الإقليمي السياسي والأمني. ذلك أن بداية طي صفحة الملف النووي منذ اتفاق تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي أدخلت ديناميات جديدة في عدد من الملفات والساحات المشتعلة.
منذ ذلك التاريخ، بدا واضحاً أن الدول المعنية برسم مستقبل المنطقة باتت أمام تحديات فرضت وتفرض إعادة نظر في عقائدها الأمنية، وشبكة علاقاتها ومصالحها الإقليمية والدولية. ولا شك في أن قيام «الدولة الإسلامية» كان الحدث الأبرز في هذا الاتجاه. وهو ما جعل الرئيس أوباما يعود إلى المنطقة، إلى العراق وربما إلى سورية قريباً. وهو ما دفع إيران إلى إعادة تموضع في هذين البلدين، فضلاً عن تعزيز حضورها في ساحات أخرى كاليمن خصوصاً. وهو ما حرك المملكة العربية السعودية ودولاً عربية أخرى وتركيا نحو المساهمة في بناء التحالف الدولي - الإقليمي والمشاركة في حربه على تنظيم «داعش». ولعل من المبكر الحديث عن تفاهمات أو تنازلات من هذا الطرف لذاك في هذه الساحة أو تلك، أي أن إيران التي تلقت ضربة قاسية في العراق لم تبدِ حتى الآن أي مرونة في التسليم بدور لشركاء آخرين في هذا البلد. قدمت في المشهد السياسي، ما يشي بأنها على استعداد للحوار. تخلت عن نوري المالكي مرغمة. ورحبت بالقادة الجدد في بغداد. وشجعتهم على الانفتاح والسعي لإعادة ما انقطع بين عاصمة الرشيد وبعض العواصم العربية، خصوصاً الرياض.
لكن إيران في المقابل لم تترجم هذا «الانفتاح» على الأرض. وبعيداً من اليمن واندفاعة «حوثييها» إلى الإمساك بهذا البلد، لم تقدم في العراق ما يطمئن خصومها من أهل السنّة والعشائر، بل يتهمها هؤلاء بأنها تسعى إلى استعادة ما فقدت أمام زحف «داعش». وبأنها تحاول عبر الميليشيات الشيعية، أو ما يسمى قوات «الحشد الشعبي»، استعادة سيطرتها على المواقع التي تطرد منها قوات «داعش»، والانتشار في مناطق جديدة لم يكن لها حضور فيها، فضلاً عن أن حكومة حيدر العبادي تبدو مكبلة في ظل التجاذب السياسي بين مكوناتها. ولم تسجل اختراقاً لافتاً في الصفوف السنّية، باستثناء بداية تسوية مع حكومة كردستان. وفي حين تغض الطرف عن التدخل الإيراني الميداني ترفض التدخل الجوي لعرب «التحالف». في ضوء هذا الواقع لم يكن أمام إدارة الرئيس أوباما التي رفعت شعار الأولوية للعراق في الحرب على التنظيم الإرهابي، سوى مزيد من الانخراط الميداني في هذه الحرب. ولجأت إلى رفع عديد جنودها في العراق من أجل تسليح مقاتلي العشائر وتدريبهم، ما دامت الجمهورية الإسلامية تخوض حربها مع «دولة الخلافة» عبر فصائل «الحشد الشعبي» التي عبرت عن رفضها التعاون مع الأميركيين، وعبر قوات في «البيشمركة». وما دامت إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية عملية قد تطول.
أياً كانت التعقيدات التي تواجه الحرب على «داعش» في العراق، فإن الإدارة الأميركية يمكنها الاعتماد على شركاء ميدانيين في هذا البلد، بخلاف ما عليه الوضع في سورية. ويمكنها التفاهم على اقتسام المهمات والتنسيق مع إيران لمنع أي خلل أو تصادم، كما يحدث الآن. ولكن، على رغم القليل من التقدم الذي يحرزه هؤلاء الشركاء، لا يمكن تحقيق اختراقات وإنجازات كبيرة ما لم يتم توحيد مسرح العمليات من الموصل إلى حلب. وهذا ما دفع الرئيس أوباما إلى إعادة النظر في السياسة المعتمدة حيال دمشق. لم يعد أمامه مفر من اعتماد خيار واضح إذا كان لا بد من دحر «الدولة الإسلامية». رفض حتى الآن خيار التعرض للجيش السوري لحرصه على بقاء هذه المؤسسة وعدم تكرار التجربتين العراقية والليبية. ولحرصه على عدم تعريض الحوار مع إيران لأي انتكاسة. ولإيمانه بأن لا بديل جاهزاً أو حتى واعداً لليوم التالي على انهيار محتمل للنظام. ولا حاجة هنا لتكرار المآخذ القاتلة على المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري والتي يسوقها أهل هذه المعارضة نفسها قبل غيرهم. ويرفض في المقابل إشراك الرئيس بشار الأسد في أي تسوية سياسية.
الوضع السوري لا يشكل مأزقاً لأميركا وحدها. إنه مأزق لإيران التي باتت تدرك مع مرور الوقت حجم الاستنزاف الذي تواجهه في هذه الساحة، بل في ساحات كثيرة من اليمن إلى فلسطين ولبنان والعراق وغيرها. قدمت وتقدم الكثير من دماء رجالها ومقاتلي ميليشياتها الحليفة في أرض الشام. وتحولت «المرضعة» الوحيدة لأهل النظام في دمشق ومناطق سيطرته. وتوفر لترسانتهم العسكرية كل ما يحتاجون إليه. وتتولى سداد الفواتير الاقتصادية في كثير من القطاعات والمجالات. على رغم ذلك، يبدو الحديث عن العودة إلى المسار السياسي في جنيف بعيد المنال. والمبادرة التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تبدو قاصرة وبعيدة من الواقع. فالاتفاق على وقف النار الذي يدعو إليه في حلب يريده النظام استسلاماً على غرار ما حدث في أمكنة أخرى من حمص إلى أحياء في دمشق وريفها. وليست «جبهة النصرة» التي باتت تتقاسم السيطرة على الشمال السوري في وارد الشريك المقبول. أبعد من ذلك جاءت التطورات في الشمال السوري لتعزز مواقع المتصارعين على بلاد الشام عموماً. ذلك أن تركيا ستظل الشريك الأول والأساسي في تقرير مصير العاصمة الشمالية، بل تمسك بالمدينة ورقة تؤهلها لأداء دورها في التسوية الشاملة للأزمة.
لن تثمر الحرب على «الدولة الإسلامية» إذا اقتصرت على المسرح العسكري. ذلك أن هذا التنظيم لم يولد من فراغ. هو نتيجة عوامل وظروف سياسية وطائفية ومذهبية وصراعات قومية. ولن تحقق تقدماً قبل أن يبدأ فعلياً طي الملف النووي الإيراني البوابة الحقيقية لفتح القضايا العالقة في المنطقة، وعلى رأسها الصراع على مواقع النفوذ والمصالح. ولا يخفى على أميركا بالتأكيد أن تسوية هذا الصراع أكثر تعقيداً من الحملة على الإرهاب. بل هي، من دون مبالغة، الباب الواقعي نحو القضاء على الإرهاب. ولن يكون الاتفاق النووي سوى خطوة أولى مهما كانت كبيرة ومفصلية. وإذا كان على الولايات المتحدة أن تنصرف عن هموم الإقليم إلى أقاليم أكثر أهمية وحيوية لمصالحها الاستراتيجية، لا بد لها من أن تساهم في إطلاق حوار لا غنى عنه مهما تأخر بين القوى الكبرى في المنطقة، المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا. الأولى تقود ما بقي من العالم العربي وجامعته المتهالكة. والثانية تقود عواصم عربية وقوى ومكونات هنا وهناك تنازع أنظمة وحكومات السلطة والسيطرة. والثالثة تبني تحالفات في المنطقة العربية تشكل لها مظلة واسعة تستظلها قوى الإسلام السياسي التي تقارع حكومات من الشمال الأفريقي إلى بلاد الشام.
بدلت العواصف التي هبت على العالم العربي في السنوات الأربع الماضية الكثير، وأجهزت على ما بقي من النظام العربي. قبلها أطلق الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى دعوته الشهيرة في قمة سرت الليبية، العام 2010، إلى رابطة جديدة لدول الجوار تضم دول الجامعة وتركيا وإيران لبناء منظومة للأمن الإقليمي. غيّب إسرائيل من دعوته، لكن بعض الأصوات العربية الرسمية نادى بحضورها... وإذا قدر لحكومة بنيامين نتانياهو أن تنجح بتغولها وسياستها الاستفزازية في دفع الفلسطينيين إلى انتفاضة ثالثة، فستفتح ملفاً أكثر سخونة في الإقليم كله يدفع مستقبل ما بقي من فلسطين إلى المجهول. فهل في حسابات الرئيس أوباما إطلاق مفاوضات سياسية بين أهل «الشرق الأوسط الكبير» وهل تسمح له السنتان الباقيتان، أم يكتفي بما يمكن إنجازه مع إيران... فيما الحرب على الإرهاب متواصلة من جيل إلى جيل ومن عقد إلى عقد؟